ارشيف من :آراء وتحليلات

قفزة جديدة لصناعة التسلح الروسية

قفزة جديدة لصناعة التسلح الروسية
صوفيا ـ جورج حداد*

قفزة جديدة لصناعة التسلح الروسيةفي السنوات الأخيرة تسمع باستمرار انتقادات موجهة الى المجمع الصناعي الحربي الروسي تتمحور حول: الفساد، رفع اسعار المنتوجات، عدم القدرة على ابتكار وتنفيذ نماذج اسلحة معاصرة، تستجيب للتهديدات الواقعية للأمن القومي لروسيا. ولا تسثني الانتقادات وزارة الدفاع، التي تتهم بتقليص عديد الجيوش، وبالاخلال بتنظيم القطاعات؛ وتتهم خصوصا بتجديد التكنولوجيا القديمة، بدلا من شراء تكنولوجيا جديدة واعدة، وبالسياسة المتبعة لعقد الصفقات الخارجية. ولنحاول في ما يلي أن نرى كم هي مبررة تلك الانتقادات وغيرها، مستندين الى الأرقام والوقائع الدامغة المتعلقة بالمشاريع التي يجري تحقيقها في المرحلة الراهنة في المجمع الصناعي الحربي.

إن الضعف المتواصل للقدرات الدفاعية لروسيا هو موضوع بحث دائم في وسائل الإعلام وفي المجتمع الروسي. قبل استلام وزير الدفاع الحالي اناتولي سيرديوكوف منصبه الوزاري، كان يجري الحديث على نطاق واسع عن لا جدوى الاهتمام بتطوير القوات الستراتيجية النووية وعن التخفيض التام لباقي قطاعات الجيش الروسي. واليوم تضاف الى مواضيع الانتقادات مسألة تقويض البنى القيادية في الوحدات والقطعات العسكرية، التي يستدعيها الاصلاح الجديد في الجيش. وكلازمة دائمة لهذه الانتقادات تسمع باستمرار الادعاءات حول المجمع الصناعي الحربي بأنه: غير قادر على ابتكار نماذج من التكنولوجيا الحربية ذات قدرة تزاحمية ووضع تلك النماذج في الانتاج المكثف في فترات زمنية مقبولة.   

اذا لم ندخل في التفاصيل ونظرنا بعين المراقب العادي، سنجد بالفعل أنه بالرغم من الزيادة السنوية للميزانية الحربية فإن تجارب الصواريخ لا تزال تفشل في تحقيق أهدافها، ولا تزال تتكرر حوادث سقوط الطائرات المطاردة، ولا يزال يتم شراء التكنولوجيا المعقدة من الخارج. ولكن لكي ندرك كم هي هذه العمليات المنظورة انعكاس للسياسة المتبعة حاليا، ينبغي ان نلقي نظرة على تاريخ العلوم والصناعة العسكرية في السنوات العشرين الأخيرة. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، فإن الصناعة الروسية بمجملها، بما فيها الصناعة الحربية، تم تخريبها. ولم يستثن من ذلك سوى: صناعة النفط والغاز، والصناعة المنجمية، وصناعة المواد الغذائية. ومن اصل 24000 مؤسسة كانت تصنع المنتوجات العسكرية أو المنتوجات ذات الاستخدام المزدوج، لم تسلم سوى 1200 مؤسسة. وحتى هذه القلة من المصانع والمعامل، كانت تفتقر الى التمويل، ولم تتطور لا تكنولوجيا ولا فكريا. وفي حين كانت هذه المؤسسات تراوح مكانها، فإن التكنولوجيات الحربية في البلدان المتطورة تقدمت اشواطا إلى الأمام. ومن أصل 5600 مركز للأبحاث العلمية والعلمية العسكرية السرية، كانت تعمل في السابق، لم يتبق سوى 677 مركزاً تفتقد إلى التجهيزات الكاملة وإلى الاختصاصيين الكفوئين والى القاعدة المادية ـ التكنولوجية المعاصرة. ومن اصل 126000 اختصاصي من الدرجة А1-А3 (حسب تصنيف منظمة العمل الدولية) كانوا يعملون في الصناعة الحربية الروسية (وليس في الاتحاد السوفياتي السابق كله)، فإن 102000 منهم اي اكثر من 80% انتقلوا للعمل في الخارج. وليس في نيتهم العودة، لاسباب عديدية أهمها الارتباط بعقود عمل طويلة الأجل في مؤسسات الصناعات الحربية في البلدان الاجنبية.

وفي مؤتمر صحفي سابق حول الأمن القومي، صرح وليام فوكينغ، مسؤول التعاون الدولي في حقل التكنولوجيا العسكرية في البنتاغون: "ان الترسانة الدفاعية للروس لم يبق منها حسب تقديراتنا أكثر من 6%. واذا استمرت الاتجاهات القائمة حاليا فلن يبق منها بعد خمس سنوات الا 0%".

وفي سنة 1999 لم تتجاوز ميزانية الدفاع الروسية 3،8 مليار دولار ـ وهو مبلغ يتم انفاقه اليوم على لواءين من القوات البرية. اما النفقات على الأبحاث العلمية العسكرية، فظلت لعدة سنوات مساوية للصفر. وبطبيعة الحال فإن نظاما تم بناؤه خلال نصف قرن، وجرى تخريبه بنسبة 100%، لا يمكن إعادته إلى ما كان عليه من جديد في بضع سنوات فقط بواسطة التوظيفات الأولية والارادة السياسية؟ ولا نتحدث هنا عن تعويض الوقت الضائع في حقل التطور التكنولوجي. وكل شخص مطلع وحصيف التفكير سيقول ان هذا مستحيل. يوجد في التاريخ العالمي مثال واحد فقط على مثل هذه الأعجوبة، ألا وهو مثال التصنيع في عهد ستالين في روسيا السوفياتية. ولكن ذلك الانجاز قد تحقق بالترافق مع استخدام العنف الجماعي حيال الشعب. أما اليوم، في ظل ظروف الدمقراطية وحقوق الانسان، فهناك طريق واحد للتحديث هو طريق التطور الارتقائي: عن طريق الاستخدام الفعال للموارد المالية والفكرية المتوفرة.

قفزة جديدة لصناعة التسلح الروسية

وفي السنوات العشر الأخيرة فإن القيادة الروسية، التي ورثت الانقاض من عهد يلتسين، تعمل لكي تبني من جديد هيكلية الصناعة العسكرية، بتراتبية واضحة للمراكز العلمية، الانشائية والانتاجية. ولكن ليس بطبيعة الحال بالمقدار السوفياتي، وليس في كل الفروع. ولكن مُـعامل القدرة الدفاعية لروسيا اليوم، حسب تصنيف المجلة الاميركية المختصة  Defence Review قد نما من معدل 12،4 (المرتبة 46 في العالم) الى معدل 49،8 (المرتبة العالمية السادسة).

وخلال الاحدى عشرة سنة المنصرمة نمت الطلبيات العسكرية بمقدار 5600%. وفي مجرى هذه المرحلة أدخلت في ربع المعاهد العليا الروسية مناهج تعليمية خاصة، وضعتها لجنة عسكرية تقنية تابعة لوزارة الدفاع الروسية. وفي المراكز العلمية الطليعية، التي حافظت الى درجة معينة على قدراتها وكوادرها، فإن اجور المتعاونين قد تضاعفت عدة مرات. وعلى سبيل المثال فإن متوسط الاجر لمهندس في مكتب للانشاءات البحرية في بتروغراد يبلغ 55000 روبل، اما المؤسسات العلمية للصواريخ في موسكو، فإن متوسط الاجر فيها يبلغ 70000 روبل (اكثر من 2500 دولار). وبالرغم من الهجرة التي لا سابق لها للأدمغة الى البلدان الأجنبية، فقد جرت إعادة بناء التكنولوجيات وانشاء انواع جديدة، تستجيب لمتطلبات الجيل الأخير (الخامس) من الانظمة التكنولوجية.

وفي سنة 2011 تجاوزت قيمة الطلبيات العسكرية للدولة مبلغ 500 مليار روبل، وهو ما يضع روسيا في المرتبة الثالثة، بعد اميركا والصين، في القدرة الشرائية. أما برنامج اعادة تسليح الجيش حتى سنة 2020 فهو ينص على زيادة هذا المؤشر الى 1،2 تريليون روبل. ويدل ذلك ببساطة: ان التطور التجديدي والصناعي للبلاد يستند حسب رهانات الدولة على المجمع الصناعي الحربي بوصفه القطاع الذي يمتلك أكبر القدرات لتحقيق القفزة التكنولوجية.

وفي الفروع التي تتخلف فيها روسيا تخلفا ميؤوسا منه، كالإلكترونيات الكومبيوتر، وانظمة الادارة والاتصالات، والكيبرترونيكا، وتقنية الروبوتات، فإن وزارة الدفاع تقوم بشراء التكنولوجيا المطلوبة من الخارج. ومع ذلك فإن سفينة الانزال والقيادة البحرية من طراز "ميسترال" فقد تم شراؤها من أجل الحصول لاحقا على السفينة Zenith-9 المعترف بها بأنها السفينة المستقبلية، والتي تتمتع بنظام قيادة وتسلح هو الافضل في حلف الناتو. وقد أدى الحصول عليها الى حدوث معارضة شديدة من قبل جميع حلفاء فرنسا في الناتو. وقد سلمت شركة DCNS السفينة مع كل الوثائق التكنولوجية الخاصة بها، مما يسمح بالنسخ الكامل  لتكنولوجيات السفينة بما في ذلك الكودات القتالية الخاصة بقيادتها. وهذا ما سيسمح في المستقبل لشغل وانتاج انظمة معاصرة فعالة للاسطول الحربي الروسي. ولكن تنبغي الاشارة إلى ان التكنولوجيات المستوردة لا تتجاوز 10 ـ 15% من حجم التسلح. اما الاسلحة والتكنولوجيات التي يتم انتاجها في المؤسسات الروسية، فهي لا تقل في نوعيتها عن مثيلاتها الأجنبية، او هي تتفوق عليها.

وهناك 12 دولة تعمل على صنع الطائرة المطاردة من الجيل الخامس؛ ولكن دولتين فقط هما الولايات المتحدة وروسيا نجحتا في ذلك. والطائرة الصينية المماثلة لم تستطع فعليا ان تلبي المتطلبات الخاصة بالقوات الجوية الحربية من الجيل الخامس.
 
قفزة جديدة لصناعة التسلح الروسية

وخلال العملية التي قامت بها روسيا سنة 2008 لاجبار جورجيا على الالتزام بالسلام ووقف العدوان على اوسيتيا الجنوبية استخدم بنجاح الصاروخ عالي الدقة جو ـ ارض من طراز Х-59  "ستيرشل". وقد اصاب الهدف المحدد في الجزء الجنوبي من تبيليسي (تفليس) بدقة لا تتجاوز 3 امتار. وهذا الصاروخ دخل في دورة الانتاج التسلسلية ويتم تزويد الوحدات الحربية المختصة به مع القنبلة الموجهة بواسطة الاقمار الاصطناعية من طراز KAB-500C-E.

ومن اهم النماذج المنتجة في المرحلة الاخيرة المجموعة الصاروخية من طراز "ايسكندر". ويعتبر الاختصاصيون ان هذا الطراز هو الافضل في العالم وانه السلاح الاكثر دقة في المستقبل المنظور. وبتأثير هذا الطراز، جزئيا على الاقل، اضطرت الولايات المتحدة ان تعيد النظر في مخططاتها المتعلقة بنشر نظام الصواريخ المضادة للصواريخ في اوروبا.

وقد ادخل الجيش الروسي  في الخدمة الميدانية المجموعة الصاروخية السمتية من طراز С-400  "تريومف"، المخصصة لتدمير اهداف طائرة بسرعة 4،8 كلم في الثانية على بعد 250 كلم. وهذا الطراز هو فعال مرتين اكثر من نظيره الاميركي المسمى صاروخ Patriot PAC-3 المضاد للصواريخ.

كما بدأت الاختبارات الميدانية للمجموعة الصاروخية السمتية من الجيل الخامس من طرازС-500 ، المخصصة لاعتراض وتدمير الصواريخ البالستية على بعد 3500 كلم. ومجموعة С-500  هذه قادرة على ان تكشف وتدمر في وقت واحد 10 اهداف بالستية اسرع من الصوت وتطير بسرعة حتى 7 كلم في الثانية (وهو ما لا يوجد مثله حتى الان في العالم). كما انها قادرة على اطلاق صواريخ في الفضاء الكوني القريب. وسيدخل هذا الطراز في الخدمة التسليحية خلال سنة 2015.
 
* كاتب لبناني مستقل
2011-08-08