ارشيف من :آراء وتحليلات

من لندن إلى فيلادلفيا: دول مارقة وفاشلة!

من لندن إلى فيلادلفيا: دول مارقة وفاشلة!
عقيل الشيخ حسين

هنالك آفة خطيرة تعاني منها الديموقراطية. وهذه الآفة هي في الوقت نفسه رافعة القوة والحيوية التي تتمتع بها الديموقراطية، وهي تكفي لتفسير الانتفاضات التي تشهدها المدن البريطانية.

شرط أن نتجنب تعريفات الديموقراطية المفتوحة على رياح السفسطة، وأن تقتصر على تعريف "مبتكر" صاغه قبل عدة عقود واحد من ضيوف إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية.

ذلك التعريف الذي وضع في لحظة كانت فيها "السنوات الثلاثون السعيدة" ما تزال ترفع فيها راياتها المجيدة فوق بلدان الغرب، يقدم الديموقراطية على أنها "امتلاك القدرة على الذهاب إلى السوبر ماركت"، للتسوق طبعاً، ولكن أيضاً وخصوصاً ربما، لكي يشعر المرء بأنه في كامل حريته، وفي كامل تحقيق ذاته ووجوده، على اعتبار أن المجتمعات الغربية تقلص الإنسان إلى مجرد آلة "مشترية"، في ظل التحول الذي حصل في الحقبة ما بعد الحداثية والذي استبدل مقولة ديكارت الشهيرة "أنا أفكر، إذاً أنا موجود" بمقولة "انا أشتري، إذاً أنا موجود".

صحيح أن وجهاً "إنسانياً" مزعوماً للرأسمالية أعطى المحرومين الذين كانوا يعيشون في المجتمعات الإقطاعية بعضاً من قدرة شرائية "محررة" عبر تمكينهم من العمل والكسب الضروري من أجل الاستمرار في الحياة حتى غد اليوم التالي لا لشيء إلا ليتمكن الرأسمالي من قطف ثمار عمله.

وصحيح أيضاً أن العمال قد توفرت لهم الفرصة فيما بعد للتمتع ببعض المكاسب التي سمحت لهم بالشعور بأنهم "شركاء" للرأسماليين بعد أن كانوا مجرد كائنات خاضعة للاستغلال الرأسمالي.

وقد حازوا هذه المكاسب بفضل موقعهم القوي في عملية الإنتاج، وكذلك بفضل وحدتهم نتيجة تأطيرهم في نقابات وأحزاب سياسية جعلت منهم قوة قادرة على قيادة تغييرات حقيقية بقوة الاضرابات وحدها.

وكذلك بفضل النظم الشيوعية التي قامت في أوروبا الشرقية، وظهور حركات عمالية وأحزاب يسارية في بلدان غربية كفرنسا وإيطاليا، أجبرت البورجوازيات الحاكمة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية على القيام بتنازلات لمصلحة الطبقات الأكثر فقراً.

وهكذا ظهرت المساعدات الاجتماعية المقدمة للعاطلين عن العمل والتسهيلات في مجال الاستفادة من التعليم والخدمات الصحية والإسكان ومعاشات التعاقد وما إلى ذلك. وكان ذلك في أصل قيام ما سمي بـ "دولة الرعاية" التي كانت في أساس تراكم المديونيات السيادية التي تفعل فعلها اليوم في تدمير المجتمعات الغربية.

لكن انهيار النظم الشيوعية، من جهة، وضمور الطبقة العاملة "بفضل" التقدم التقني، من جهة ثانية، سمحا للرأسماليين بالثأر لأنفسهم وبالانتقام عبر البدء بالتراجع عن سياسة الإعانات الاجتماعية. ولعبت الموازنات العسكرية الضخمة التي ابتلعتها حربا أفغانستان والعراق دوراً في تراكم المديونيات وتعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

ومع هذا، وبالتوازي مع خطط التقشف والحد من الإنفاق الحكومي، استمرت في عرض منتجاتها المتزايدة التنوع والإغراء، من دون أن تترك للمحرومين غير الرغبة الجامحة والمحبطة في الحصول على سلع لا يملكون القدرة على شرائها.

وقد عبرت هذه الرغبة عن نفسها أيضاً من خلال شعور المحرومين بأنهم مطرودون من جنة الرفاه الرأسمالي والديموقراطي، بقدر ما اصبحوا عاجزين عن ولوج أبواب السوبرماركت.

أليس من حق هؤلاء المحرومين أن يشعروا بأنهم ضحايا للعدوان والعنف والاضطهاد في مجتمع استهلاكي يجبرهم على أن يكونوا مستهلكين رغم عدم امتلاكهم الوسيلة اللازمة لذلك؟

أليس من المشروع، في الوقت الذي يجد فيه القضاة أعذاراً تخفيفية لمجرمي الحق العام عبر النظر إليهم كضحايا لهذا أو ذاك من الاضطرابات النفسية والضواغط الاجتماعية، أن يُنظر إلى المحتجين، إلى أولئك المستهلكين الذين فقدوا إمكانية الذهاب إلى السوبرماركت، بعين غير تلك التي ينظر بها إليهم رئيس الوزراء البريطاني الذي لم ير فيهم غير مجرد لصوص ومجرمين ينبغي معاقبتهم بأشد ما يمكن من القسوة؟

وعندما نسمع رئيس الوزراء البريطاني نفسه وهو يهدد بإنزال الجيش إلى الشوارع لقمع المحتجين، في حين يشرح له مستشاروه المتخصصون في قمع الانتفاضات والذين استقدموا من الولايات المتحدة، بأن الحل لا يمكن أن يكون بوليسياً وحسب... ألا يشكل ذلك انزلاقاً خطيراً نحو الفاشية الجديدة التي تجتاح حالياً جميع بلدان الغرب؟

وكذا الأمر عندما نسمعه وهو يهدد بطرد المشاغبين من المساكن الشعبية ذات الإيجارات المدعومة من الدولة. أين يذهبون في وقت لم تعد فيه قارات يمكن اكتشافها وإبادة سكانها؟

خمسة قتلى، ومئات الجرحى، وآلاف الاعتقالات وخسائر مادية بمئات الملايين من الجنيهات، وأخرى معنوية في بريطانيا العظمى التي تعيش أزمة اقتصادية وأخلاقية خانقة.

تلك هي نتيجة السياسات الديموقراطية التي تشهد وستشهد المزيد من الاضطرابات المدمرة التي ضاق بها ذرعاً أحد كتّاب الواشنطن بوست الذي لم يكن ينتظر انبثاق ظواهر من هذا النوع في غير البلدان الموصوفة بأنها " متخلفة".

والنتيجة، في وقت لا تزال تعطى فيه الدروس في الديموقراطية وحقوق الإنسان، وتندلع فيه اضطرابات مشابهة في فيلادلفيا ومدن أميركية أخرى، هي مجرد تساؤل: هل يمكن أن نجد لهذه الدول التي تعتمد سياسات قائمة على المقدس الوحيد المتمثل بالعجل الذهبي، والتي يتنامى بين أحضانها هذا النوع من الانتحار الجماعي... هل يمكن أن نجد لها اسماً غير اسم الدول المارقة والفاشلة؟


2011-08-15