ارشيف من :آراء وتحليلات

تخبّط القوة الذكية لواشنطن وحلفائها في دمشق... لهذه الأسباب رفع أوباما الصوت؟

تخبّط القوة الذكية لواشنطن وحلفائها في دمشق... لهذه الأسباب رفع أوباما الصوت؟

عبد الحسين شبيب

ماذا تعني دعوة الرئيس الأميركي باراك أوباما نظيره السوري الدكتور بشار الأسد الى "التنحي من أجل الشعب السوري" كما قال بيان البيت الأبيض المكتوب؟ التحليل المتداول هو أن الإدارة الأميركية وحلفاءها الأوروبيين والعرب والأتراك انتقلوا الى المرحلة التالية من الضغوط على الرئيس الأسد.

طبعاً هذا الامر صحيح، لكنه عبارة عن جملة ناقصة تحتاج الى تكملة حتى يتم معناها والتي تقصدت وسائل الاعلام العالمية التي احتفت بالدعوة اجتزاءها. الجملة التي أنقصت من الخبر هي أن الانتقال الى المرحلة التالية من الضغوط جاء بعد فشل المرحلة الأولى التي قامت على توفير مقومات العمل الأمني التخريبي الذي باشرته مجموعات مسلحة بتمويل أميركي وأوروبي وعربي بينته مصادر الأسلحة ونوعياتها وكمياتها التي تمكنت الأجهزة الأمنية السورية من ضبطها ومصادرتها على غير معبر حدودي مع الدول المجاورة لسوريا.

على أن المظاهر الأخيرة لنجاح الجيش السوري في إفشال المخطط الأمني الانقلابي والتي استدعت رفع صوت الخاسرين تمثلت في ثلاثة معطيات حسية هي التالية:

1 ـ الصور الحية التي عرضتها وسائل الاعلام لاخلاء الجيش السوري مدرعاته وآلياته المحمولة من المدن التي انجز فيها مهماته بحفظ الامن واعادة النظام والقضاء على جميع المجموعات المسلحة وآخرها في اللاذقية الساحلية في عمليات أمنية دقيقة كتب لها النجاح؛

2 ـ اختفاء اخبار الاشتباكات المسلحة والعمليات الأمنية من على شريط الاخبار القصيرة أسفل الشاشات المناوئة للنظام، ما أكد التقلص الكبير في مساحة العمل الأمني بعد الاعلان الرسمي السوري عن انتهائه؛

3ـ ابلاغ الرئيس الأسد شخصيا الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون بانتهاء العمليات العسكرية في مختلف المناطق السورية؛

بالنسبة للاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والأوروبية والعربية التي تتابع الوقائع السورية مباشرة ـ وبالواسطة ـ فإنها عرفت مسبقا بتمكن الجيش السوري من إفشال العمل الأمني المدار خارجيا بواسطة هذه الأجهزة الإستخبارية نفسها وبوسائل أخرى قامت القيادة السورية بتوثيقها بكل تفاصيلها تهيؤاً للحظة الحساب مع المتآمرين الخارجيين والداخليين على الدولة. لكن في الصورة العامة فإن تظهير المعرفة الأميركية الأوروبية باخفاق عملهم الأمني ترجم بيوم واحد من الدعوات الصادرة دفعة واحدة من واشنطن ومن مركز صنع قرار الاتحاد الأوروبي التي تطلب من الأسد التنحي موحين بأن نظامه بات على شفير الهاوية، ومنتحلين لهذه الغاية صفة الشعب السوري، فقدموا أنفسهم متحدثين باسمه، لكن مع مفارقة "مؤسفة" (بتهكم) هي ان اوباما وكاثرين اشتون وغيرهما من المسؤولين الأوروبيين لم يشهروا للرأي العام العالمي وللصحافة الدولية بيان التوكيل المذيل بتوقيع الشعب السوري لكي يعبروا عن أمانيه وينطقوا باسمه.

واذا كان الاوروبيون يمارسون سياسة الذيل الملحق يالسياسة الاميركية فإن سقطة خطابهم وعجزهم تبقى أقل من سقطة وعجز باراك أوباما اولاً على المستوى الشخصي، وثانياً على مستوى الادارة الأميركية بكل فروعها واجهزتها. فأوباما يدعو الاسد للتنحي باسم الشعب السوري، فيما آخر استطلاع للرأي اجراه معهد "غالوب" الشهير أظهر انخفاض نسبة التأييد الشعبي للرئيس الأميركي إلى معدل قياسي بلغ أقل من 40 في المئة لأول مرة منذ توليه منصبه. وبين الاستطلاع أن 39 في المئة فقط من الأميركيين راضون عن طريقة أداء الرئيس أوباما لعمله، مقابل 54 في المئة غير راضين عن أدائه. واعتبرت وسائل الإعلام الأميركية أن هذه النسبة هي أسوأ نسبة يحصل عليها الرئيس أوباما خلال فترة رئاسته.

السؤال: كيف يمكن لرئيس مأزوم شعبياً في بلده أن يصادر قرار شعب آخر ويطلب من رئيس هذا الشعب أن يتنحى، وهو على أي حال عمل غير مسبوق وليس له أي أساس قانوني أو شرعي ولا يمت الى الديمقراطية بصلة ومناقض لميثاق الأمم المتحدة ومخالف لكل القوانين الدولية، لكنها بدعة ظهرت على السطح في لحظة فراغ عالمي لم تعد دولة عظمى مثل الولايات المتحدة قادرة على ملئه الا بمثل هذه القنابل الصوتية الخفيفة الصوت ايضاً. وهنا المقتل الثاني لأوباما وحلفائه، فبلدانهم، ونقصد الولايات المتحدة والدول الاوروبية، غارقة هذه الأيام حتى أذنيها في الازمات الاقتصادية التي تكبل ايديها وتفقدها القدرة على التحرك الفعال والتعبير عن مظاهر قوتها السابقة، اللهم الا على شكل حروب كونية يتم اللجوء اليها عادة للخروج من ازمات اقتصادية خانقة.

اكثر من ذلك لا يمكن لواشنطن وباريس وبرلين وغيرها ان تفعل سوى الصراخ من الالم، وهذا بالضبط ما تفعله. فاللهجة العالية التي بدأت الخميس في الثامن عشر من أغسطس/ آب الجاري ليست إلا تعبيراً عن ضربات يتلقاها هؤلاء في أماكن وجعهم المتعددة، وآخرها في افغانستان التي ومنذ اسقاط المروحية الاميركية ومعها مقتل ثلاثين جنديا اميركيا، ثم مقتل خمسة جنود اميركيين في عملية ثانية، ثم مقتل فرنسي واميركي، ثم الهجوم على المركز الثقافي البريطاني في كابول، كلها احداث يجهد الاميركي لاقناع نفسه مع حلفائه بأن لا علاقة لها بحربهم المفتوحة على نظام الاسد. لكن وبحسب معلومات متوافرة من غير مصدر فإن رفع اللجهة الاميركية تحديداً لها علاقة بمحاولات حثيثة تبذلها واشنطن لاقناع طهران بمساعدتها على إبرام اتفاقية أمنية جديدة مع العراق تضمن لها بقاءً عسكريا لسنوات قادمة في هذا البلد تحت ستار حماية سفارتها الأضخم والأكبر في العالم، ومعها بعثاتها القنصلية المنتشرة بطريقة غير مألوفة في عشرات المدن العراقية. والمعلومات المتوافرة تؤكد أن الاميركيين حمَّلوا وزير الخارجية التركي داوود اوغلو رسالة واضحة الى الايرانيين تطلب منهم تسهيل بقائهم في العراق مقابل كف ايديهم ـ الاميركيين ـ عن الرئيس بشار الاسد، وعليه يفهم من رفع سقف الخطاب الاميركي ان طهران في غير وارد التجاوب مع الطلب الاميركي، لذا يتوقع من واشنطن زيادة سعارها ضد سوريا، بالحد الأدنى لإظهار أنها لا تزال قادرة على ممارسة الضغط المؤثر.

من هنا جاء الأمر التنفيذي لأوباما القاضي بتجميد أصول الحكومة السورية الخاضعة للقضاء الأميركي، والحظر على الامريكيين العمل او الاستثمار في سوريا، وحظر استيراد المنتجات النفطية السورية، وأيضا إعلان وزارة الخزانة الأميركية حظر التعامل مع خمس شركات نفطية سورية، فيما أخذت بضع دول اوروبية على عاتقها مهمة التحضير لمشروع قرار جديد في مجلس الأمن الدولي بفرض رزمة عقوبات مشددة على سوريا في أقرب جلسة له، لكن مع انعدام فرص مرور أي عقوبات في الامم المتحدة بسبب الفيتو الروسي والصيني، وأيضاً معارضة كل من الهند والبرازيل وجنوب افريقيا فضلا عن لبنان، أي إن النصاب اللازم لإمرار العقوبات غير متوافر فكيف مع الفيتو.

على أن واحداً من أبرز مظاهر الاعتراض الروسي تمثل بإعلان أكبر شركة تصدير أسلحة روسية أنها تعتزم مواصلة بيع السلاح الى دمشق رغم دعوة واشنطن عبر وزيرة خارجيتها موسكو كي توقف تجارتها للأسلحة مع العاصمة السورية. وأكد اناتولي أسايكين مدير عام شركة "روسبورون إكسبورت" انه "كانت هناك شحنات أسلحة الي سوريا العام الماضي وستكون هناك شحنات هذا العام... وستستمر". وبحسب الخبر المرفق فإن موسكو وهي ثاني أكبر مصدّر للاسلحة في العالم تريد تعويض عقود بقيمة 4 مليارات دولار خسرتها عندما فرضت الامم المتحدة حظرا على السلاح الى ليبيا هذا العام. وأكد أسايكين ان شركته "ستنفذ العقود التي وقعتها مع سوريا بما في ذلك اتفاق وقع مؤخراً لتوريد المقاتلة الروسية الهجومية الخفيفة ياك ـ 130".

اذاً في ظل انسداد أفق العقوبات الدولية وانحصارها في العقوبات الأحادية الجانب، فإن مآل الوضع المستقبلي يمكن احالته الى تقدير وضعه أحد الخبراء الاسرائيليين، تسيفي بارئيل، وجزم فيه بأن نهاية الأسد لن تكون قريبة. وفي تقرير نشرته صحيفة 'هآرتس' الاسرائيلية توقع بارئيل أن تصبح سورية مركزاً لحرب شاملة وشيكة في منطقة الشرق الاوسط، محذراً من أن تركيا وإيران ستكونان طرفين رئيسين في تلك المواجهة.

وبحسب هذا الخبير فانه وفي ظل غياب الضغط العسكري الخارجي، وما دام ان سورية تعتمد على قوة ردع ايران، فإنه من الصعب التكهن بأن أيام بشار الأسد في السلطة باتت معدودة، فواقع الحال يشير الى أن الصراع الدائر في سورية سيستمر لفترة طويلة. على أن أحدث تصريح لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو جاء فيه أن أنقرة تعارض أي تدخل عسكري أجنبي في سوريا، مع الاشارة المستمرة الى أنه ليس هناك لا في واشنطن ولا في أوروبا من يفكر جديا بالمغامرة في الموضوع السوري، وهي لازمة لا ينبغي أن تغادر أي تحليل للوضع السوري المحصّن بعناصر قوة عديدة له، وبعناصر ضعف وعجز عديدة لخصومه. واحد من مظاهر هذا العجز هو تخبط الإدارة الأميركية في ادائها، وآخر مثال على ذلك تصريح هيلاري كلينتون قبل يوم واحد من إعلان أوباما الأخير، في معرض دفاعها ضد الانتقادات التي تقول إن واشنطن لم تكن من القوة بما يكفي في إدانتها للعنف الدائر في سورية لأن مسؤوليها لم يدعوا إلى رحيل الرئيس السوري. وقد ردت كلينتون بالقول: إن الإدانة من داخل المنطقة ستكون أكثر تأثيراً من الإدانة من جانب الولايات المتحدة أو أوروبا.

وأضافت: إن إعلان الولايات المتحدة بأن الأسد بحاجة إلى أن يرحل لن يكون خبرا في حد ذاته، حسنا ماذا بعد؟ إذا ما اعلنت تركيا هذه العبارة، وإذا ما قالها الملك عبد الله وإذا ما قالها آخرون، فلن يكون هناك مجال أمام نظام الأسد لتجاهلها. لذا أعتقد أن هذه قوة ذكية، وأنا أتحدث كثيرا عن القوة الذكية حيث لا يقتصر الأمر على القوة الغاشمة ولا يقتصر الأمر على الأحادية. وعليه يكون من مظاهر القوة الذكية الاميركية ان تعتبر كلينتون دعوة بلادها الاسد للتنحي غير ذكية، ثم في اليوم التالي يدعوه رئيسها اوباما للتنحي، ثم يصدر تصريح عن البيت الابيض يقول ان الرئيس الاميركي لا يعتزم استدعاء سفيره روبروت فورد من دمشق. هل هذا تخبط اميركي ام قوة ذكية؟
2011-08-19