ارشيف من :111متفرقات

في زمن الحروب البديلة: رواية بيلمار البوليسية وتَذْكِيَةُ الصراعات الداخلية

في زمن الحروب البديلة: رواية بيلمار البوليسية وتَذْكِيَةُ الصراعات الداخلية
مصطفى الحاج علي

القرار الاتهامي ولد منزوع السم لاعتبارات كثيرة، يبقى أهمها:

أولاً: أنه جاء صورة طبق الأصل عما سبق وسُرّب منه الى وسائل اعلام دولية وعربية ومحلية بدءاً من صحيفة " ديرشبيغل" و"لوفيغارو" ومحطة التلفزيون الكندية "CBC" ومروراً بـ"السياسة الكويتية" وليس انتهاءً بوسائل اعلام العدو الصهيوني، فحينما كانت تتم عملية التسريب كانت دوائر التحقيق الدولي ودوائر المحكمة تلوذ بالصمت او تنكر خجلاً، وكانت معزوفة الافتراء المحلية تُقسم ليل ـ نهار بأن لا أحد مطلع على مضمون القرار الاتهامي، ولا على مسار التحقيق. الإنكار مطلوب، لأن الاقرار يؤكد دعوى المفترى عليهم بأن هذا التحقيق، وهذه المحكمة، مسيسان من رأسيهما الى أخمص قدميهما، وكان مما يقوّي من حجة هذه الدعوة هو هذا التزامن المستمر بين عمليات التسريب والمحطات السياسية التي يمر بها لبنان، أو العلاقات السورية والايرانية مع أولياء أمر فريق الافتراء هذا، ويكفي هنا الرجوع قليلاً الى الوراء للتثبت من حقيقة هذا التزامن الذي أفل ما يوصف به هو أنه تزامن مريب.

والتسييس ليس مجرد صفة يلحق بالتحقيق، وإنما هو مرآة كاشفة عن الوظيفة الفعلية التي من أجلها أنشئت لجنة التحقيق هذه، ومن أجلها أنشئت المحكمة، وهي وظيفة أقل ما يقال فيها إنها لا تتوخى الحقيقة بقدر الاستهداف السياسي تارة لسوريا وطوراً لحزب الله والمقاومة وتارة أخرى لإيران أيضاً، وهذا ما يؤكد بدوره ان التحقيق كما المحكمة هما من عدة المواجهة الدولية لا سيما الاميركية ـ الاسرائيلية مع محور المقاومة والممانعة عموماً ومع حزب الله والمقاومة في لبنان تحديداً.

ثانياً: جاء نص مضمون القرار الاتهامي مثقلاً بالتحليل والفرضيات ومستنداً مركزياً على فكرة التزامن بالاتصالات، التي هي في حد ذاتها لا يعمل بها في المحاكمات المعتبرة لأنها لا ترتقي الى حدود الدليل الجنائي، وفي العموم، فإن هذا القرار ببذل جهداً لغوياً وقصصياً وروائياً من أجل تركيب بنيته القانونية، فهو ـ في الحقيقة ـ يقدم الينا رواية متخيلة أكثر مما يقدم لنا شريطاً واقعياً لحقيقة ما جرى، والفارق كبير بين الاثنين، في الرواية يستحضر الراوي كل مخيلته الخصبة من أجل تركيب واقع يناسبه، بينما الآخر يقوم بدور الكاميرا التي تلاحق مفردات الواقع لتنقلها كما هي.

الأول هو عمل القصّاص، بينما الثاني هو عمل المحقق الفعل الذي يعمل جاهداً على تقصي الحقائق والأدلة، وهذا هو بالتحديد ما ينص عليه علم التحقيق الجنائي.

يضاف الى ما تقدم، أن كل ما قدمه القصّاص بيلمار من استنتاجات او تخيّلات يمكن تفنيده بسهولة منطقية وواقعية، ويكفي هنا القول، ان الاحتمال كما الظن لا يغني من الحق شيئاً، ثم ان بيلمار لا يستطيع لا هو ولا سواه انكار القدرة التكنولوجية اليوم على التلاعب بداتا الاتصالات، وعلى التحكم بشبكاتها العاملة، وعلى استخدام الهواتف من دون علم اصحابها، هذا اذا سلمنا اصلاً بالتماسك المنطقي والواقعي لفرضية التزامن.

ثالثاً: ان الاختبار الأولي لوقع صدور القرار الاتهامي جاء مخيباً لآمال المراهنين عليه خصوصاً عصابة التزوير والافتراء العاملة في لبنان والتي كانت تروج منذ مدة ـ انتبهوا منذ مدة ما يعني انها كانت على علم بمضمونه ـ ان مضمون القرار سيكون له صدى كبير في لبنان والمنطقة، والحقيقة يبدو أن تحالف المزورين والمفترين داخلياً وخارجياً كان يراهن على أن يأتي وقع صدور القرار أفضل من وقع نشر صور المفترى عليهم الأربعة من المقاومين الشرفاء. إلا أن حسابات بيدرهم لم يوافق أيضاً حسابات حقلهم، وهذا إن أشار الى شيء فهو يشير الى ان رهان هذا الفريق على أن تبقى تشكل له المحكمة رافعة سياسية وشعبية لم يعد ـ على الأقل ـ رهاناً يمكن التعويل عليه كثيراً، ولاعتبارات ليس أقلها:

أ ـ انفضاح لعبة المحكمة والتحقيق بالكامل.

ب ـ انفضاح ألاعيب هذا الفريق الذي لا هم له سوى الوصول الى السلطة واستخدامها لأغراض وأهداف لا تمت الى مصالح الناس بصلة، وانما تخدم فقط اولياء امورهم الخارجيين من اميركيين وعرب.

ج ـ الوضع المتدهور الذي يعاني منه هذا الفريق جراء افتقاده لأي قضية محقة، وحرصه على التزود بأسباب البقاء من خلال لعب دور المحرض على العنف والانقسام الداخلي، واستباحة مؤسسات الدولة من أمنية ومالية وتربوية... الخ، وصولاً الى مغامرته بربط مصير الأوضاع في لبنان بما يجري في سوريا، من خلال تحويل لبنان الى ساحة صراع مفتوحة معها، والى جبهة خلفية لما يجري فيها.

د ـ ترهل وضعه التنظيمي والمالي والشعبي.

هـ ـ انشغال اولياء أموره عنه بقضايا كبيرة تمس مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، ولذا يبدو هذا الفريق متروكا الى حد ما من دون ان يعني ذلك سحب شبكة الأمان من فوق رأسه، وهي شبكة عمل على نسجها منذ خروجه من السلطة على أكثر من صعيد، الا انها شبكة يبقى تماسكها مرهوناً بما سيؤول اليه الاشتباك الدولي ـ الاقليمي في المنطقة عموماً وفي سوريا تحديداً.

رابعاً: بناءً على ما تقدم، لماذا صدور القرار الاتهامي في هذا التوقيت؟ وهل ثمة أهداف أخرى مطلوب تحقيقها في هذه المرحلة؟

أ ـ ان صدور القرار الاتهامي كان لا بد منه، لأنه خطوة لازمة في مسار اجراءات المحكمة التي بدأت بقبول فرانسين لهذا القرار، ومن ثم الاعلان عن اسماء المفترى عليهم والطلب من الحكومة اللبنانية ملاحقتهم وإلقاء القبض عليهم.

وبناءً عليه، فإن صدور القرار الاتهامي هو خطوة اضافية في مسار اطلاق عمل المحكمة، وان كان بامكان المدعي العام ابقاءه سرياً لحين انعقاد جلسات المحكمة.

ب ـ ان نشر مضمون القرار هو جزء من معركة كسب الرأي العام، والايحاء بالشفافية والمصداقية، فالروائي بيلماء يريد القول ان لديه قضية متماسكة، وان يصدر حكماً مسبقاً بحق المفترى عليهم ومن خلالها يريد زعزعة قناعات، واستمالة أخرى.

ج ـ تقديم مادة للتحريض السياسي والاعلامي تعين عصابة الافتراء والتزوير على المضي في عملها، بعد أن تقوم بتبنيها الكامل لرواية بلمار والعمل على تسويقها لدى جمهورها والرأي العام داخلياً وخارجياً.

د ـ تقديم مادة تفيد عصابة الافتراء والتزوير في الذهاب أكثر في عملية الضغط السياسي والاعلامي على حزب الله من جهة، وعلى رئيس الحكومة والحكومة من جهة أخرى، بما قد يساعدها على انجاز هدفها المعلن والمتمثل باسقاطها.

هـ ـ البعث برسائل مشفرة الى حزب الله تحديداً تخيره بين ان يفصل نفسه عن المقاومين المفترى عليم، أو ان تجري عملية توسعة للاتهام لتشمل الحزب نفسه، وهذا ما قام بتوضيحه خير قيام رد الفعل الأولي للحريري على صدور القرار الاتهامي.

و ـ اكثر من ذلك لقد لمح بيلمار الى امكان توسعة دائرة المفترى عليهم لتشمل القائد الشهيد الحاج عماد مغنية في رسالة اضافية منه.

وهذا ما يؤيد بدوره ان المعركة مع محكمة التزوير هذه ليست فقط على الحقيقة الحقة والعدالة الحقة، وانما على الرأسمال الرمزي والمعنوي للمقاومة تحديداً.

فالهدف الاستراتيجي يبقى هو النيل من هذا الرأسمال الرمزي لإسقاط المقاومة كمثال يحتذى، لمصلحة خيار الاستسلام للعدو الاسرائيلي. ولذا فإن جبهة المحكمة كما حربها تقع تماماً في امتداد عدوان تموز، وهي بمثابة حرب بديلة يراد منها نقل المعركة من حدود الصراع المفتوح مع هذا العدو الى حدود الصراعات البينية لا سيما في زمن الفراغ والعجز الاميركي والاسرائيلي وأعوانهما في المنطقة سواء عن الاستمرار في دائرة العجز، أم في شن حروب جديدة. وهنا تحديداً مكمن الخطر، ما يجعل الرهان مجدداً على وعي الشعوب.
2011-08-20