ارشيف من :أخبار لبنانية
البقرة الضاحكة البقرة المُقدّسة ويحيموفيتش..
زهير أندراوس(*)
لا يوجد لدينا أدنى شك بأنّ الحركة الاحتجاجيّة في الدولة العبريّة تقتصر على أعضاء نادي الأكثريّة اليهوديّة فقط، لأنّ إسرائيل قامت أصلاً على نفي الأخر، بالمعنى المجازيّ وأيضًا العمليّ، ونميل إلى الترجيح بأنّ هذه الحركة خرجت إلى النور بتأثير من الربيع العربيّ، ولكن علينا الإقرار بأنّ المظاهرات في إسرائيل أكدت بما لا يدعو للتأويل على أنّ الديمقراطيّة فرضت نفسها وبقوةٍ ولم نسمع منذ إقامة هذه الدولة وحتى اليوم عن مواطن يهوديّ تمّ قتله من قبل الأجهزة الأمنيّة بسبب احتجاج سياسيّ أوْ اجتماعيّ، ولكن بالمقابل، سمعنا ورأينا كيف تقوم نفس الدولة، دولة الاحتلال، بقمع أصحاب الأرض، أبناء فلسطين، بالحديد والنار، إذا ملكوا الجرأة وخرجوا للتّعبير عن عدم رضاهم من الوضع المزري الذي أوصلتهم إليه سياسات الحكومات الإسرائيليّة في مختلف المجالات وشتّى الميادين، فمن النكبة، مرورًا بالحكم العسكريّ في الستينيات من القرن الماضي، وتعريجًا على يوم الأرض الأول عام 1976 وحتى أكتوبر الأسود في العام 2000، تعاملت الديمقراطيّة الصهيونيّة مع العرب بقسوة: قتلت، بطشت، شرّدت، جرحت، اعتقلت، هدمت، حاصرت، وما إلى ذلك من ممارسات قمعيّة أيّ حركة احتجاج في الداخل الفلسطينيّ، وباعتقادنا فإنّ سياسة العنف والبطش ستتأجج في المستقبل القريب، لأنّ الدولة التي تقوم بتشريع العنصريّة في برلمانها غير الديمقراطيّ بامتياز وتعمل على مأسسة وقوننة العنصريّة، تُعلن على الملأ بأنّها قررت الانتقال إلى مرحلة الفاشيّة.
***
الحركة الاحتجاجيّة في إسرائيل، التي تُطالب بتطبيق العدالة الاجتماعيّة وتُشدد على إسقاط هيمنة أصحاب رؤوس المال على الاقتصاد العبريّ، تواصل المناورة ضمن حيّز الإجماع القوميّ الصهيونيّ، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، لم نسمع من قياديي هذه الحركة عن تعاطفهم مع المشاكل العويصة التي يعاني منها أكثر من عشرين بالمائة من سكان الدولة، أيّ عرب الـ48، فقرية العراقيب تمّ هدمها مرارا وتكرارا، فهل وصل منْ وصل من المواطنين اليهود للتضامن معنا ضدّ هذا البطش؟ الجواب لا. حتى اللجنة التي عيّنها بنيامين نتنياهو، لم تشمل حتى عربيًا واحدًا، الأمر الذي يقطع الشك باليقين، بأنّ الحديث يدور عن مشاكل بين المجتمع اليهوديّ الذي انتخب الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وبين الحكومة، ناهيك عن أنّ منْ ينتخب حكومة بهذا التطرف، هو عمليًا ونظريًا أكثر تطرفًا منها.
***
اللافت أوْ بالأحرى عدم اللافت، أنّ السواد الأعظم من المحتجين ينتمون إلى الطبقة الوسطى المسحوقة من الناحية الاقتصاديّة، ولكن بالمقابل يؤيدون حزب الليكود الحاكم، وأعلنوا أنّهم سيُصوتون له في الانتخابات القادمة، كما أظهرت الاستطلاعات الأخيرة التي أكدت عدم تآكل قوة الليكود والأحزاب اليمينيّة المتطرفة، أيّ أنّ المواطن اليهوديّ يحتج ضدّ من يقمعه اقتصاديًا، حسب رأيه، ولكنّه يُسانده من الناحية السياسيّة، أيْ أنّ "الضحيّة" تدعم "الجلاد"، وهذا يحدث في إسرائيل فقط، ذلك أنّ حركات الاحتجاج في العالم قاطبة تُفرز قوى سياسيّة مناهضة لنظام الحكم، ولكن في الحالة الإسرائيليّة اليهوديّة، الأمر يختلف، لأنّ المواطن الصهيونيّ هو كالحكومة التي انتخبها على استعداد للتضحيّة من أجل مواصلة العربدة الإسرائيليّة وتفوق دولته على العرب "المتخّلفين" داخل وخارج حدود فلسطين التاريخيّة.
***
لاحظنا منذ انطلاق "الانتفاضة اليهوديّة" تمسك المحتجين وقادتهم بالمبادئ الصهيونيّة وبالرأسماليّة النتنة التي تتحكم بهذه الدولة، فلم نسمع مثلاً، عن مطالبة المحتجين من الشمال حتى الجنوب مرورًا بدولة تل أبيب، بالاقتراب من البقرة المقدّسة، أيْ تقليص ميزانيّة الأمن، التي أقّرتها الحكومة، والتي وصلت إلى 18 مليار دولار، وهي أعلى ميزانيّة يحصل عليها جيش الاحتلال منذ العام 1948، لا بل أكثر من ذلك، فإنّ قادة الجيش يُطالبون بزيادة الميزانيّة بذريعة التحديّات العسكريّة الجديدة على وقع الثورات العربيّة.
***
كما أننّا لم نُصَب بحالة من الهستيريا عندما رأينا عن كثب امتناع الحركة الاحتجاجيّة اليهوديّة عن سبق الإصرار والترصد، من الخروج عن "الإجماع القوميّ الصهيوني" وطرح قضيّة المستوطنات الكولونياليّة في الضفة الغربيّة المحتلّة، ذلك أنّ هذه المستوطنات، غير القانونيّة حسب المواثيق والمعاهدات الدوليّة تستنزف الاقتصاد الإسرائيليّ، أيْ أنّه في إسرائيل قادةً وشعبًا، يُجمعون على قضيتي عدم المس بميزانية الأمن أوْ بالمستوطنات، ومن هنا فإنّ عدم التقليص في الميزانيّات الضخمة لهاتين المؤسستين، الجيش والمستوطنات، لن يُسعف الطبقة الوسطى الإسرائيليّة، التي ستبقى على حالتها، وأكثر ما يُمكن أنْ تحصل عليه الحركة الاحتجاجيّة في إسرائيل سيتمثل في عددٍ من أقراص التهدئة غير الناجعة للأمراض الخبيثة التي يُعاني منها الاقتصاد في دولة الأكثريّة اليهوديّة.
***
لا نستبعد البتة إقدام نتنياهو المتطرف والمتشدد من الناحيتين الاقتصاديّة والسياسيّة باستغلال إعلان الدولة الفلسطينيّة في أيلول (سبتمبر) القادم لوأد الحركة الاحتجاجيّة عن طريق افتعال أزمة سياسيّة مع الجيران العرب والمسلمين، والقيام بمغامرةٍ عسكريّةٍ ، لأنّ الحرب هي ليست استمرار السياسة بأساليب أخرى فقط، كما قال القائد الألمانيّ كلاوزوفيتش، بل هي في هذه الدولة العنصريّة العامل المركزيّ والمفصليّ للاصطفاف الشعبيّ حول الحكومة في حال اتخاذها القرار بتوجيه ضربة عسكريّة لحزب الله أو لحماس أو لسوريّة، أوٍ للقوى الثلاث مجتمعةً، وعندما تندلع الحرب لن نر حركة احتجاج، ولا مطالب بعدالةٍ اجتماعيّةٍ، والتاريخ يعود على نفسه: ففي العام 1966 عاشت إسرائيل مرحلة الكساد الاقتصاديّ وخرجت منه متغطرسةً بعد عدوان العام 1967.
***
وأخيرًا، في مصر كانوا يُلقّبون الرئيس المخلوع حسني مبارك بالبقرة الضاحكة ويضحكون، ولكنّهم بعزيمة وإصرار طردوه، ولم تتورع صحيفة "الدولة" (يديعوت أحرونوت)، عن نشر صورته في المحكمة، والتشفي عليه حيث كتبت بالبنط العريض وعلى صدر صفحتها الأولى: مثل الكلب، على الرغم من أنّه قدّم للدولة العبريّة الخدمات الجليلة. في إسرائيل حتى النائبة "العماليّة"، شيلي يحيموفيتش، قالت الخميس (18.08.11) في لقاءٍ مع صحيفة (هآرتس) إنّها بالتأكيد لا ترى في مشروع الاستيطان خطيئة أو جريمة، وإنّما عملية هي محط إجماع وأنّ حزب العمل هو الذي نهض بمشروع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وهذه حقيقة تاريخية، حتى هنا الاقتباس.
ونحن نقول إنّ الأمن مثل المستوطنات، بقرة مقدسّة في الدولة العبريّة، ونخلص إلى الجزم: نعم، صحيح، الفرق بيننا وبينهم ليس نقطة، فثقافة القطيع في المجتمع الصهيونيّ تجلّت بأبشع صورها في ما يُسمى بثورة الخيام في "إسرائيل".
(*) المصدر: موقع عرب 48