ارشيف من :ترجمات ودراسات

حول دلالات عملية إيلات..

حول دلالات عملية إيلات..
علي جرادات(*)
بعد الأحداث التي وقعت في الذكرى 63 للنكبة، والذكرى 44 لهزيمة حزيران 1967، على التخوم اللبنانية والأردنية والسورية، تأتي عملية إيلات الفدائية الناجحة على التخوم المصرية، لتحمل ذات المغزى السياسي للحراك الشعبي العربي، (حتى الآن)، إنجازان أساسيان: إنجاز أن ما بعده غير ما قبله، وإنجاز أن الشعوب العربية التي كسرت حاجز الخوف، وأمسكت بزمام المبادرة، أصبحت، (في أقله)، لاعباً سياسياً فاعلاً يُحْسَبُ حسابه، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفي قلب الأخير يقع الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، النواة المضمرة في هذا الحراك، الحدث التاريخي، تقدم الأمر أم تأخر، ما يحيل إلى سؤال:

إن كان الحراك الشعبي العربي في مرحلته الانتقالية، وفي مصر تحديداً، قد هز الحدود العربية مع فلسطين، وجعل وقوع أحداث ذكرى النكبة 63 وذكرى الهزيمة 44، واليوم عملية إيلات، ممكناً، فكيف ستكون عليه الأمور، في حال تمخض هذا الحراك عن ولادة أنظمة حكم عربية، تعكس الإرادة الحرة لشعوب الأمة العربية، التي تستبيحها السياسة الأمريكية الإسرائيلية، قضايا وحقوقاً وسياسة واجتماعاً واقتصاداً وجغرافية؟

كما حدثي الذكرى 63 للنكبة، والذكرى 44 لهزيمة حزيران 1967، تعتبر عملية إيلات الفدائية، بمعزل عن الجهة التي نفذتها، حدثاً ميدانياً كبيراً، وذا مغزىً سياسي أكبر، به يمكن تفسير حالة الحيرة والارتباك والتردد، التي اتسمت بها الردود السياسية، لكافة الأطراف المعنية، وفي مقدمتها الرد السياسي للحكومة الإسرائيلية، الذي صاغه نتنياهو وباراك، اللذين، بدعمٍ من المؤسسة الأمنية والعسكرية، لم يستجيبا لمطلب حزب "كاديما" المعارض المنادي علناً بالتوسيع الفوري لنطاق العدوان على غزة، بل، اختارا الاكتفاء بردود عسكرية موضعية محسوبة، هي بكل قسوتها وإجرامها، كانت دون المتوقع من حكومة يمينية متطرفة، يشارك فيها فاشي مثل ليبرمان، ويقودها نتنياهو، الغارق في تطرفه السياسي وأيديولوجيته الصهيونية العنصرية من الرأس حتى الكعب، بل، ولا تتناسب مع حاجة هذه الحكومة لتصعيد الصراع الخارجي، كسبيل ناجع للخلاص من الأزمة الاقتصادية البنيوية الداخلية، وما أفرزته من موجة احتجاجات اجتماعية شعبية، قرر منظموها وقفها مع سماع أول طلقة على الحدود، ما يبرهن، على أنها، فعلاً وحقاً، مجرد احتجاجات تدور تحت سقف النظام الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني، بهدف إعادة توزيع كعكته العامة وتقاسمها.

إن عدم تسرع نتنياهو وباراك في دفع الأمور إلى مزيد من التصعيد في غزة، فضلاً عن تركيز جهدهما على تهدئة الأمور مع السلطة الانتقالية في مصر، لا يشير إلى أنهما، ناهيك عن ليبرمان ويعلون ويشاي، قد أصبحا داعيتي حسمٍ لتحديات الصراع بالتسويات السياسية، فموقفهما، فضلاً عن أنه مؤقت، لم يستبعد خيار التصعيد، الذي من الممكن، بل، من المُرجح، اللجوء إليه لاحقاً، سواء ضد غزة أو غيرها، إنما بعد إجراء الحسابات الدقيقة، واختيار التوقيت الأنسب، وتوفير التغطية السياسية اللازمة، كما يُستشف حتى من تصريحاتهما العلنية.

إن ما اكتنف الموقف المؤقت للحكومة الإسرائيلية من تردد وحيرة وارتباك، يشير إلى ثقل ما يواجهه قادة إسرائيل من تحديات إستراتيجية جديدة، خلقها لهم الحراك الشعبي العربي، علاوة على ما كان قائماً قبلها من تحديات لا تقل عنها إستراتيجية، وتحدي المقاومة اللبنانية، وعجزهم عن حسم ملفها بما اعتادوا عليه من حروب خاطفة، هو مجرد مثال، يشي، وعلى علاقة، بتحدٍ أكبر، تحدي الملف النووي الإيراني، الذي ليس بلا دلالة أن يقود البحث في خيارات حسمه إلى أزمة داخلية، كانت قد تفجرت، وخرجت للعلن، مؤخراً، بين نتنياهو وباراك من جهة، وبين قادة عسكريين وأمنيين كبار، معروفين بدمويتهم، من جهة ثانية.

وللتدليل على ثقل ما يواجهه قادة إسرائيل من تحديات جديدة، يضاعفها إيغالهم في احتراف الحروب، ورفض المعالجة بالتسويات السياسية، يجدر التذكير بأن تحدي الحدود مع دول الطوق العربي، الذي أعادته للواجهة مجددا عملية إيلات الفدائية، ومن قبلها أحداث الذكرى 63 للنكبة والذكرى 44 لهزيمة حزيران 1967، هو ليس تحدياً جديداً، بل قديماً، ولم تقوَ قوة الردع الإسرائيلية بمفردها على حسمه، بل، ساعدها في ذلك ما كان قد وقع من خلل استراتيجي في ميزان القوى، وتسببت في نشوئه سياسة النظام الرسمي العربي العاجزة عن المواجهة، إذ منذ إخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن في أيلول 1970، هدأ الصراع على الحدود الشرقية لفلسطين، وعادت الحال، (كاتجاه عام)، إلى ما كانت عليه قبل انطلاق المقاومة الفلسطينية في أواسط ستينيات القرن المنصرم. ومنذ توقف إطلاق النار في حرب العام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، ساد الهدوء كامل الحدود الجنوبية والشمالية لفلسطين، باستثناء الحدود مع لبنان، حيث تواجدت المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

لقد انطوى هدوء الحدود العربية مع فلسطين على تهميش جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، القضية الفلسطينية، وتحويله إلى مجرد نزاع حدودي بين إسرائيل من جهة، وبين دول الطوق العربي المحاذي لفلسطين من جهة ثانية، ما أدى إلى نشوء خلل إستراتيجي في واقع ميزان القوى لهذا الصراع.

وتعمق هذا الخلل أكثر بإبرام معاهدة السلام المنفردة، (كامب ديفيد)، بين مصر وإسرائيل عام 1979، التي استثمرها قادة إسرائيل لشنِّ اجتياح عام 1982 على لبنان، مستهدفين القضاء على المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وكانت النتيجة إبعاد الأخيرة عن كامل الحدود العربية المتاخمة لفلسطين.

وبتعميم نهج السادات في التفاوض الثنائي المنفرد تحت الرعاية الأمريكية في "مدريد" عام 1991، تفاقم هذا الخلل الإستراتيجي أكثر فأكثر. فقد استهدف الإصرار الأمريكي الإسرائيلي على ثنائية هذه المفاوضات، مزيداً من تهميش القضية الفلسطينية، وعزلها عن عمقها العربي.

وبهذا وقعت الأطراف العربية، بدفعٍ أمريكي، في فخِّ خطة خداع إسرائيلية إستراتيجية، حين راهنت أكثر، وأطول، من اللازم، على فرضية إمكان أن تقود هذه المفاوضات، ومن دون استخدام لعوامل القوة العربية، إلى إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، تلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية المغتصبة.

بفعل هذا الخلل الإستراتيجي، سكن العقل القيادي الإسرائيلي، على اختلاف مشاربه، الاعتقاد بأن الشعوب العربية غير قادرة على تعديل هذا الخلل، وأنه يمكن للقوة الفيزيائية وللمزيد منها، أن تلجم حركة هذه الشعوب إلى ما لا نهاية. واليوم، وفقط عبر الانعكاس الإيجابي الأولي للحراك الشعبي العربي على القضية الفلسطينية، يتضح للقادة الإسرائيليين، ومن قبلهم لقادة الأنظمة الرسمية العربية، كم كانوا مخطئين، بل، وواهمين أيضاً. 
2011-08-27