ارشيف من :ترجمات ودراسات

الثوار الليبيون: من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

الثوار الليبيون: من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

لؤي توفيق حسن (*)

"إذا ركب اثنان معاً الحصان نفسه، فأحدهما يجب أن يكون في الخلف" ـ شكسبير

مما لا شك فيه أن معمّر القذافي قد أدى قسطه للعُلى في توفير كافة الشروط للأطلسي كي يصبح له موطئ قدم في ليبيا. ذلك عندما لم يدرك باكراً ومنذ الأيام الأولى لانتفاضة الشعب الليبي أن عقارب الساعة ما عاد ممكناً أن تعود إلى الخلف. ليسارع بعدها إلى تسوية تاريخية مع شعبه يتدارك فيها سياسته الخرقاء التي تركت ندوبها على المجتمع، وتشوهاتها على الدولة وإدارة مواردها.

غير أن الطغاة لا قضية لهم سوى كرسي الحكم باعتباره غايةً، وهدفاً، وليس وسيلةً لتحقيق خير الشعوب ومصالح الأوطان. يعتبرون أن مرضاة الخارج، والتسوية معه هي الطريق الاقصر الذي يمنحهم هامشاً من الأمان!!. وبذا ذهب القذافي إلى (بيت الطاعة!): أمريكا وبالتحديد مفتاحها! "إسرائيل" ـ كما تخيل! ـ ليعقد صفقةً عبرها طالباً النجاة منها، وليس من شعبه!!. يا للغباء!!.

لم تتردد "إسرائيل"، فقد بذلت الدعم الممكن مخابراتياً، وفنياً من خبراء، واستطلاع عبر أقمارها الصناعية، ووسائل التنصت وغيرها حتى تمكنت كتائب "العقيد" من دحر الثوار طارقةً أبواب بني غازي.

لقد قدم القذافي لـ"إسرائيل" عروضاً سخية؛ منها (العهد) بإقامة علاقات دبلوماسية معها. باعتبار أن اعترافه بها ضمنياً أضحى حقيقة واقعة ترجمتها القنوات الدبلوماسية الخفية، والتي (أثمرت!) تنسيقاً مع الموساد تلاه طي صفحة "لوكربي"، وعودة العلاقات إلى (صفوها!) مع الغرب... وغير ذلك مما سيكشفه قادم الأيام!.

ليس الغرب، وصنيعته "إسرائيل"، من الحماقة حتى يعتقدا بجدوى هذه العروض القذافية في هذا الظرف، فكلاهما ينظر بزاوية أوسع لاحتمالات الثورات في الجوار التونسي، والمصري. لذلك فهما يعتبران أن أي مسعىً لتعويم طاغية موصوف مثل القذافي إنما يعني في هذا الظرف المزيد من التضييق على فرص الغرب في مسعاه لاحتواء هاتين الثورتين، وبالأخص المصرية. كما وسيؤدي إلى المزيد من نبذ الشارع العربي للغرب، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية. هذا بينما العلاقات المصرية ـ "الإسرائيلية" تترنح بفعل ضغط الشارع المصري.

كذلك يدرك الغرب أن الثورات ضد الطغاة أشبه بطائر الفينيق ما إن تُكْبتَ من هنا حتى تنهض بعد زمن مستأنفةً دورتها التاريخية من هناك. مع فارق وهو أن تمكين القذافي من شعبه اليوم لن يحميه من ثورته في الغد. لكنها في هذه الحالة ستكون ثورةً تتأسس على كراهيةٍ عميقةٍ للغرب. وقد تستحوذ على فرص أكبر للنجاح إذا ما استقرت الأمور في مصر وأخذت تنحو إلى حيث لا تشتهي أمريكا وحلفاؤها الأطلسيون.

وفقاً لهذه الحسابات (استثمر) الغرب هذا الانتصار لكتائب القذافي لابتزاز "المجلس الانتقالي" قبل أن يمد له يد العون بغية تحقيق أهدافه المباشرة، وغير المباشرة، ومن أبرزها:

1ـ ضمان الإمساك بالثروة النفطية الليبية. ونقول: ضمان. باعتبار أن الثروة النفطية الليبية باتت واقعياً من نصيب الغرب وفقاً للعقود المبرمة مع سلطة القذافي. غير أن الإمساك بالثروة يحتاج بنظر الغرب إلى ظل عسكري يحميه. في سياق التنافس الدولي والسيطرة على سوق النفط، بل ومصادر الطاقة عامةً.

2ـ استكمال تطويق مصر، حيث "إسرائيل" غربها، وجنوبها مشاريع التفتيت التي ستضع تباعاً حصتها المائية من نهر النيل رهينةً؛ لا سيما مع النشاط الإسرائيلي المتزايد في جنوب السودان، ودول المنبع.

بقيت هناك ضرورة للإشارة إلى أن الذين حملوا السلاح، واضعين أرواحهم على أكفهم، وهم من غير أهل الاحتراف عسكرياً، لا يمكن من حيث منطق الاشياء وتكوين النزعات الانسانية أن يكونوا عملاء، أو مرتزقة بالمعنى الحقيقي للكلمة. بل إن العارف بالظروف القاهرة للشعب الليبي، فضلاً عن معاناته الشديدة من نظام القذافي، يدرك أن هؤلاء ليسوا إلا منتفضين حقيقيين على البؤس، والحرمان، والظلم. هذا ما يدركه الغرب الذي لم يَبنِ سياساته يوماً على رمال العواطف أو الوجدانيات، وإنما فقط على الحسابات الهادئة، وبعقل بارد. ومعها يدرك أن مظاهر الحفاوة به من بعض الليبيين ظاهرةٌ عاطفيةٌ عابرة، وستعود بعدها الحقائق إلى نصابها حيث: "الشرق شرق، والغرب غرب، لا يلتقيان". بحسب مقولة الشاعر البريطاني روديارد كبلنغ، الذي وصفه بعض العارفين بـ "لسان الاستعمار"!.

لا نشك بصدق طوية هؤلاء الثوار؛ على الأقل المقاتلين من المتطوعين، ومعظم قياداتهم الميدانية على الأرض. وهذا ما يخشاه الأطلسي. أي أن ترتقي العلاقة الجدلية بين الوعي بالظلم، وبين الوعي الوطني والقومي إلى مرحلة الصدام معه. لذا سيستغل "الناتو" حضوره العسكري والأمني ليخترق المجتمع الليبي من نقطة ضعفه. أي من تكوينه العشائري وبالتحديد التنافس القبلي. وهو بالاساس كان ساخناً بفعل سياسة العقيد الداخلية التي تبنت هذه التناقضات كمدخلٍ لإضعاف المجتمع، وإمكان السيطرة عليه .

إن هذه التحديات تلقي بكاهلها منذ الآن على أكتاف النخب الليبية الواعية، والمخلصة. كما وتلقي بهمومها على الشارع العربي، وبالأخص منه المصري للاعتبارات التي ذكرناها سابقاً.

لقد بات الليبيون الآن في حقلٍ من الألغام. ما يستوجب جهداً مخلصاً، وأكثر تعقيداً من مسيرة انتفاضتهم في وجه طغيان القذافي. بل لعلهم قد انتهوا الآن من الجهاد الأصغر؛ ليبدأوا بعده الجهاد الأكبر.

(*) كاتب من لبنان



2011-09-01