ارشيف من :آراء وتحليلات
الفساد... عندما يصبح أستاذاً في الإصلاح!
المعادلة القائمة على الشر الذي ينتحل لنفسه صفة الخير قديمة قدم التاريخ. تتجدد بألف شكل ولون بقدرة المال والقهر وفنون التلاعب والتضليل. رأينا ذلك ونراه على مستوى السياسة الدولية في ظواهر من نوع الاستعمار: مجرد التسمية مصداق لضخامة الأكذوبة السمجة: أوروبا الاستعمارية أمرَّت مشروع هيمنتها على العالم تحت عنوان إعماره. ما يفترض أن بلدان العالم التي اجتاحتها جيوش أوروبا لم تكن غير كومة خراب.
مع كل ما في ذلك من صفاقة في التنكر لديانات الشرق التي انتهى الأمر بأوروبا إلى اعتناق إحداها، أي المسيحية. ولحضارات الشرق، من أقصاه إلى أدناه بدأءاً بالصين والهند وفارس ومروراً بالعراق والشام ومصر وحضارات إفريقيا، وانتهاءً بالحضارة العربية الإسلامية التي انصهرت فيها معظم تلك الحضارات.
مثال بسيط على حجم الأكذوبة ـ لكي لا نتكلم عن شمس الإسلام التي أنارت أوروبا النهضة: إفريقيا التي جاء الأوروبيون لـ "إعمارها" قبل 500 عام، كانت تؤمّن لأبنائها كمية من السعرات الحرارية تفوق بضعفين تلك التي كانت تؤمنها أوروبا لأبنائها.
ورأيناه ونراه على المستوى الأكثر قرباً منا: لم يتعرض شعب من الشعوب إلى قهر يعادل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل وقهر وتشريد وسجن على أيدي الصهاينة المدعومين من أوروبا وأميركا. لكن الدعاية الغربية المحكومة صهيونياً صورت الأمر منذ البداية على أن القضية هي مجرد قضية وطن قومي لليهود فوق أرض بلا سكان.
وفي حين كانت دبابات الجيش الإسرائيلي وطائراته، وما تزال، تهدم المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية فوق رؤوس سكانها، وتفعل مثل ذلك بالمدن والقرى العربية، ظهرت مقولة الشعب اليهودي المسكين الذي يمارس حق الدفاع المشروع عن نفسه.
وحق الدفاع الإسرائيلي عن النفس، وهو حق لا يتبناه الإسرائليون وحدهم، بل يؤيدهم فيه من هب ودب من سياسيي العالم ومثقفيه، وبينهم بالخفاء والعلن، سياسيون ومثقفون عرب، هو ما بموجبه هاجم الجيش الإسرائيلي سفينة مرمرة التي كانت تحمل معونات إنسانية إلى غزة، وقتل وجرح بدم بارد بضعة عشر شخصاً من المتضامنين الذين كانوا على متنها.
وعلى مستوى أكثر قرباً منا أيضاً في الغزو الأطلسي لليبيا، وهو الغزو الذي يجري تحت عنوان حماية الشعب الليبي، والذي لا يخجل بعض كبار الساسة الغربيين من الاعتراف بأنه "استثمار للمستقبل".
وعلى مستوى أكثر قرباً منا أيضاً وأيضاً في المؤامرة الحالية على سوريا. فجأة لم يعد أمثال ساركوزي وكاميرون وأوباما وكلينتون يذوقون طعم الكرى لشدة ما يعتصرهم الألم على الشعب السوري. هددوا وتوعدوا دون كلل أو ملل طيلة الشهور الستة الماضية.
ومارسوا الضغوط وفرضوا العقوبات دون جدوى. وعندما استنفدوا ما بجعبتهم، استخدموا آخر أوراقهم ـ وكل أوراقهم ضعيفة وواهنة ـ كلفوا بلدان الخليج وتركيا، ثم الجامعة العربية، بممارسة الضغط على سوريا.
والجامعة العربية، كما هو معروف، اسم صار ـ في ظروف تشهد فيها الساحة العربية عظائم الأحداث وأكثرها خطراً وخطوراً ـ جديراً، بدخول مجيد إلى موسوعة غينيس في مجال الترهل والتهلهل.
ومع هذا، نراها تنبعث من جديد لتردد على مسامع سورياً كلاماً تتزاوج فيه المهزلة مع الفضيحة: الجامعة تجمع دولاً ودويلات منها ما لم يذق في عمره طعم الانتخابات. ومنها من سجل مآثر جليلة في الانتخابات الشكلية: 99، 99 بالمئة. ومنها من تحكمه أسر أو أفراد لمدى الحياة بعيداً عن كل مراقبة أو محاسبة من عرف أو من قانون...
ومع هذا لا تجد حرجاً في الطلب إلى الحكم في سوريا، بين مطالب أخرى، بأن يجري انتخابات رئاسية وتعطيه مهلة لذلك... على طريق الانتقال إلى نظام ديموقراطي تعددي!
الأكيد أن جهابذتها، وهذا أمر طبيعي في زمن انحسار الثقافة والأدب والمعرفة لمصلحة البورصة والوجبات الدسمة، لم يسمعوا بقول الشاعر حين يقول: لا تنهَ عن خُلُق وتأتي مثله، بل أشنع منه.
والأكيد أيضاً، وهذا أمر طبيعي في زمن فيلتمان وغيره من المبعوثين (فيهم)، ممن يأتونهم بالأمر المطاع، أنهم لا يقررون، بل يقومون بدور حامل الرسالة المقفلة التي لا يعرف مضمونها، والذي لو سولت له نفسه أمر فتحها لما تيسر له فهمها أو حتى تهجئتها.
أمثال هؤلاء هم من تسعى الدوائر الغربية والصهيونية إلى زجهم في معتركاتها الخاسرة، بعدما دارت عليها الدوائر في جميع المعتركات. وذلكم تأكيد حاسم لكون سوريا قد خرجت أكثر قوة من مؤامرة هي أكبر ما تعرضت له من مؤامرات.