ارشيف من :آراء وتحليلات
لعنة الوثائق المسربة والمعثور عليها: هكذا يتلاعب الأميركيون بمصائر الشعوب
عبد الحسين شبيب
نحن اليوم في الذكرى العاشرة لهجمات 11 ايلول/سبتمبر عام 2001 على الولايات المتحدة والتي تتزامن مع فورة غير مسبوقة في عالم الوثائق السرية التي تكشف دائما حقيقة الأحداث، والتي لا تشبه تلك الحقيقة التي تتولى وسائل الاعلام، عن معرفة أو عن قلة معرفة، تسويقها للرأي العام لتكوّن له صورة عما يجري ليكتشف بعد مرور الزمن أنها غير صحيحة، وأنه كان ضحية أولئك الذين يديرون العالم فعلا في الخفاء وليس الأشخاص الظاهريين ممن يعتقد الناس أنهم قادة البشرية.
مثلا احتاج الناس الى تسع سنوات إلا نصف، أي حتى منتصف حزيران عام 2010 لكي يعرفوا خلفية الغزو الأميركي لأفغانستان أواخر العام 2001، والذي ربط حصراً بهجمات نيويورك وواشنطن التي تبناها تنظيم القاعدة، وحيث قيل إن الاميركيين قصدوا هذا البلد الأفقر في العالم لكي يكون المحطة الأولى في حربهم على الإرهاب، فحفظ الرأي العالمي هذه اللازمة عن ظهر قلب لكثرة ما تكررت، وسيقت في معرض تبرير الغزوات اللاحقة على العراق ولبنان وفلسطين وإيران وغيرها. كانت النتيجة ان الولايات المتحدة وضعت يدها على أفغانستان، ليكتشف الناس، بمن فيهم "كبار" السياسيين والصحافيين في العالم، أن القوات الأميركية في هذا البلد منشغلة بالبحث عن ثروته المعدنية منذ وطئت اقدام عسكرييها تلك الأرض، ولتخرج تصريحات عن مسؤولين حكوميين أميركيين كبار وزعت على الصحافة العالمية قالوا فيها إن الولايات المتحدة اكتشفت في أفغانستان مخزوناً هائلاً من المعادن تقدر قيمته بحوالى تريليون دولار. ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" في حينه عن المسؤولين قولهم إن هذا المخزون المعدني غير المعروف سابقاً هائل وضخم جداً، ويتضمن الحديد والنحاس، والكوبالت، والذهب، ومعادن حساسة مثل الليثيوم، وكثيراً من المعادن المهمة في الصناعة الحديثة ما قد يحوّل أفغانستان إلى واحد من أهم مراكز التعدين في العالم. وأوضح هؤلاء أن هذه الثروة اكتشفها فريق صغير من مسؤولي "البنتاغون" والجيولوجيين الأميركيين، دون ان يسأل أحد نفسه: هل من اختصاص وزارة الحرب الأميركية البحث عن المعادن وهل هو جزء من المهارات القتالية التي يتدرب عليها الجيش الاميركي؟.
باختصار توجت "نيويورك تايمز" كشفها بالحديث عن مذكرة داخلية للبنتاغون وصفت أفغانستان بأنها قد تصبح في مجال الليثيوم كالسعودية في مجال النفط، حيث يعد الليثيوم معدنا أساسيا في صناعة بطاريات الحواسيب والهواتف النقالة، وذيلت خبرها بالقول ان من شأن هذه الثروة الخام أن تجذب استثمارات ضخمة إلى هذا البلد، وكان مسك الختام نقل الصحيفة عن قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس قوله إن "هناك إمكانيات مذهلة".
طبعا لم تنس الصحيفة اعطاء خلفية سابقة للخبر فأوضحت ان الفريق الأميركي الذي أرسل إلى أفغانستان كان يعمل وفقاً لمعطيات وخرائط قديمة جمعها خبراء سوفيات في قطاع المناجم خلال احتلال الإتحاد السوفياتي لهذا البلد في ثمانينيات القرن الماضي، بما يعني أن القطب الثاني في العالم آنذاك كان يضع عينه على ثروة هذا البلد الفقير.
اليوم تكرر "نيويورك تايمز" نفسها وتكشف هذه المرة عن وثائق تم العثور عليها مؤخرًا في أحد المكاتب التابعة لرئيس جهاز الاستخبارات الليبية في نظام معمر القذافي، توضح تفاصيل جديدة حول العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بين وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA وإدارة الاستخبارات الليبية، وتظهر من بين التعاملات القذرة بين الطرفين "أن الأمريكيين أرسلوا مشتبهين بالإرهاب، لنحو ثماني مرات على الأقل، لإخضاعهم للاستجواب في ليبيا رغم السمعة السيئة التي كانت تتمتع بها البلاد في أعمال التعذيب".
كما أظهرت الملفات التي تركها مسؤولو نظام القذافي خلفهم، بينما كانت طرابلس تسقط في قبضة الثوار، أن التعاون كان أوسع بكثير مما كان معلناً، مع كل من وكالة الاستخبارات الأمريكية، ونظيرتها البريطانية المعروفة باسم MI-6، حيث تشير بعض الوثائق إلى أن الوكالة البريطانية كانت على استعداد لتتبع أرقام هواتف لحساب الليبيين. وفي حينه كما يذكر الرأي العام فإن القذافي كان يُقدّم في وسائل الاعلام الاميركية والبريطانية ووفق تصريحات قادة البلدين على أنه رئيس نظام ديكتاتوري ينتهك حقوق الإنسان والى ما هنالك من مواصفات "لوائح الارهاب الاميركية ونظيراتها الاوروبية".
كم يجب ان ينتظر الشعب الليبي حتى يكتشف حقيقة التدخل الأميركي والأوروبي هذه المرة في بلاده والخلفية الحقيقية له والتحضيرات والاتصالات والخطط التي وضعت لسرقة ثروة الشعب الليبي بين أكثر من عاصمة وأكثر من جهة رسمية وغير رسمية، بعيداً عن تلك الاكذوبة التي تزعم حماية الليبيين من بطش القذافي، وهو مجرم بحق، وحرصها عليهم، وهي كانت تقيم معه العلاقات الاستخبارية الوثيقة وغيرها في عز بطشه بالليبيين وتحويلهم الى شعب على الارجح لم يتسن للكثيرين على وجه الكرة الارضية أن يروا شكله وملبسه ولهجته لكثرة ما كان العقيد قد اختصر بلده وشعبه بنفسه وبأفراد عائلته.
المخزون الليبي من الوثائق وافر نظراً لتشابك ارتباطات نظام القذافي وامتداداته إلى أكثر من قضية وملف في العالم، وتحوله الى وكيل لتنفيذ مهمات اجرامية، استهدفت قادة كباراً من أمثال الامام السيد موسى الصدر وبعده الدكتور فتحي الشقاقي، وللمصادفة فإن كليهما من قادة المقاومة البارزين ضد الاحتلال الاسرائيلي، وكليهما، سماحة السيد ورفيقيه، اختفوا في ليبيا بعد دعوة من عقيدها، والدكتور الشقاقي اغتيل بعد دعوة وزيارة مماثلة الى هذا البلد.
بين خباياها ستحمل وثائق الاستخبارات الليبية حقيقة جريمة إخفاء الامام وحقيقة اغتيال الشقاقي، وأيضا الدور الاميركي وغير الأميركي فيهما. وحتى تتنشط الذاكرة فإن الامام الصدر أخفي على خلفية دورين كان يقوم بهما: الاول قيادة العمل المقاوم ضد العدو الاسرائيلي في لبنان وأيضا دعم الجهاد الفلسطيني، والثاني المشاركة في الثورة الاسلامية في ايران من خلال كونه أحد جسور التواصل ونقل رسائل وخطب وبيانات الإمام الخميني (قدس سره) من النجف الأشرف الى الداخل الايراني، وهو ما كانت تتابعه سفارة الشاه في بيروت عن كثب من خلال مخبريها الايرانيين واللبنانيين وبالتعاون مع مختلف أجهزة الاستخبارات الأجنبية. وليس خافيا أنه في الأشهر الأخيرة من عمر نظام الشاه، وبينها شهر آب/اغسطس الذي اخفي في الواحد والثلاثين منه الامام الصدر ورفيقاه، كانت واشنطن تضع ثقلها لإحباط الثورة الإيرانية بعدما بلغت ذروتها وأدرك الشاه نهايته، وكانت تدير هي والاسرائيليون وبعض الجنرالات الايرانيين الأمور مباشرة من طهران، وهو ما بينته بوضوح وثائق السافاك لاحقاً والأخرى التي عثر عليها الطلاب في مقر السفارة الأميركية في العاصمة الإيرانية.
كانت واشنطن بكلها وكلكلها وبالتعاون مع ما أمكنها من أدوات عربية وحلفاء أوروبيين تسعى لإبقاء نظام الشاه أو إبداله بنظام حليف لها، وكذلك الاسرائيليون الذين كانوا يعرفون الإمام الصدر كأشرس مقاوم حقيقي لهم، كما يعرفون تماما عواقب هزيمتهم في إيران وانتصار الإمام الخميني. وليس عبثا ان اختار الاسرائيليون أوري لوبراني منسقاً لما كانوا يسمونه "الانشطة الاسرائيلية في لبنان" بعيد اجتياح العام 82 وهو كان رئيسا للبعثة الاسرائيلية في طهران، وجسر تواصل بين نظام الشاه والقيادة الاسرائيلية، وباللغة الدارجة حديثاً فان لوبراني كان خبيراً في المجتمع الشيعي في ايران وعلاقته بالمجتمع الشيعي في لبنان، لذا تم اختياره للمهمة الآنفة الذكر.
وعلى الأرجح فإن هناك أطرافاً كثراً، في غير مكان وبينها لبنان، قلقون هذه الأيام من أن تكشف وثائق القذافي الأدوار القذرة التي قاموا بها في جريمة اخفاء الإمام الصدر، وايضا جريمة اغتيال الدكتور الشقاقي، فضلا عن إضاءتها على مزيد من التورط الأميركي والأوروبي في إرهاب يزعم هؤلاء أنهم يحاربونه، لتبقى العبرة لدى الرأي العام العربي الذي انطلت على جزء منه حيلة الأميركيين والأوروبيين وبعض من يزعمون وقوفهم إلى جانب الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد، فيما كشفت وثائق ويكيليكس ـ وستكشف غيرها من الوثائق اللاحقة ـ حقيقة المؤامرة التي أعد لها بإتقان ضد الرئيس بشار الأسد، الذي لو أراد ان يقف في وجه رغبة الشعب العربي بأكمله بعيد انتصار المقاومة عام 2000 وبعيد غزوتي افغانستان والعراق وحرب تموز عام 2006، وسلف الأميركيين والإسرائيليين ما طلبه منه رسمياً وزيرا الخارجية الأميركيان، كولن باول أولاً وكونداليزا رايس ثانياً، لكان طوب من قبل واشنطن رئيسا أبدياً بأرقى مواصفات "الديمقراطية" التي يفصلونها كما يريدون. لكن لعل عملية اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة من قبل ثوار مصر تعيد تصويب البوصلة نحو العدو الحقيقي للشعوب العربية والذي دعم أنظمتها الفاسدة، وأبقاها على قيد الحياة طوال هذه المدة، بحيث تزال الشبهة عند من اعتقد لوهلة أن الأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين حريصون على حقوقه وحياته وديمقراطيته، فيما هم في الحقيقة لا يلوون على شيء إلا حفظ مصالحهم ومصالح "اسرائيل" فقط وفقط.