ارشيف من :آراء وتحليلات

الراعي والذئاب... بين بُعد النظر والبَلَهِ السياسي مع رشَّة حقد

الراعي والذئاب... بين بُعد النظر والبَلَهِ السياسي مع رشَّة حقد

عبد الحسين شبيب

عندما يوصف قادة 14 آذار ـ جميعهم من دون استثناء ـ بأنهم مراهقون في السياسة، فهذا ليس اجحافاً بحقهم، بل تعبير مهذب وملطف لما يمارسونه في الشأن العام، علما انهم يستحقون توصيفا اعنف من الوصف اعلاه. وقد كانت تجربتهم الاخيرة مع مواقف بطريرك انطاكية وسائر المشرق للمسيحيين الموارنة بشارة الراعي نموذجا هو الاكثر فداحة بين ما ارتكبوه، كونهم جمعوا فيه كل موبقاتهم دفعة واحدة تجاه رزمة القضايا التي اوجد بينها البطريرك الراعي ترابطا منطقيا لا يجوز من وجهة نظره إحداث فك ارتباط بينها وتطبيق نظرية فصل المسارات ـ كما يرغب الاميركي والاسرائيلي دائما ـ لمن يتوخى المصلحة العامة لوطنه، بناءً على تجربة وإدراك وقراءة مركزة للتاريخ وعملية تكراره حاضرا والرغبة بتكراره مستقبلاً.

لم يكن كلام الراعي شأنا محليا بالمطلق، ولا متصلا بحسابات ضيقة لها علاقة بالصراع بين شطري آذار اللبنانيين، 8 و 14 بتاتا، حتى تنتفض كل قبائل 14 آذار بهذا السعار ضد من كانوا يعتبرونه حتى لحظة هبوط طائرته في باريس "مرجعهم الروحي وحامي هوية لبنان ونظامه الديمقراطي"، ليتحول في دقائق الى "رجل دين ليس له خبرة في السياسة" كما هم عليه سياسيو 14 آذار، وفقا لتوصيف احد اعضاء الصف الثاني فيهم النائب السابق والمسؤول الكتائبي ايلي ماروني.

لا يحتاج الامر الى حنكة او تدريب على التحليل لكي يفهم لب الموضوع والاطراف المقصودة من كلام البطريرك، وهو حصرا موجه الى الخارج والى الغرب تحديدا، والى من يحاولان ان يتصدرا حاليا واجهة الاحداث الشرق اوسطية، الولايات المتحدة وفرنسا، ومن معهما من اذناب عربية وعثمانية. والا لماذا اختار البطريرك الراعي باريس لكي يطلق صرخته هذه، وهو لديه منابر بمنازل كثيرة في لبنان لكي يعبر عن هواجسه وقلقه.

خلاصة القضية التي تستدعي التأمل هي ان هناك ضحايا يسقطون في كل مرحلة انقلابية، سواء كانت شرعية او غير شرعية، وفي عالم اليوم الذي دمغته الولايات المتحدة بمذهبها السياسي المسمى واقعية سياسية، لا يمنع ان يكون الضحايا من الحلفاء، ممن تقود واشنطن باسمهم "عملية التغيير" ثم ترميهم في سوق البيع والشراء اثناء موسم الحصاد النهائي.

بين يدي البطريرك وهو يشاهد هذا الهجوم الاميركي الفرنسي على المنطقة حشد من الادلة لا يمكن ان توصف بالظرفية ولا يمكن ان تتهم انها من بنات افكار شياطين شهود الزور، بل هي ادلة دامغة موثقة مجمع عليها حتى لدى اولئك الذين سارعوا الى ادانته، وفي ارشيف صحفهم، بل كتب رموزهم المنشورة، ما يغني الراعي لكي يستدل على مآل الامور.

التجربة اللبنانية غنية بما يغني عن البحث في ساحات اخرى عن انتهازية الاميركيين وصفاقتهم في التعامل مع من يحسبون عليهم اصدقاء او حلفاء او اي شيء آخر، وليس خلاصة ما انتهت اليه الديبلوماسية الاميركية في ذروة الحرب اللبنانية واقتراحهم ترحيل المسيحيين من لبنان عبر البحر وتهيئة السفن التجارية لهم، الا نموذجا مخففا عما يمكن ان تفعله الادارة الاميركية في سياق معالجتها اي ازمة ما دامت مصالحها تحتاج الى ذلك.

اذا خرج من 14 آذار من يقول ان هذا كان اقتراحا ولم ينفذ وحاول التخفيف من وقعه لابراء ذمة الاميركيين، ففي جعبة البطريرك الصيغة التي انتهت بموجبها الحرب الاهلية عندما احتاجت واشنطن الى موقف من دمشق يؤيد ضرب قوات صدام حسين التي اجتاحت العراق، ففعلت، فكان الثمن وضع لبنان باكمله تحت ما دأب هؤلاء الاذاريون على تسميته بـ"الوصاية السورية"، وحصل ما حصل للمسيحيين في لبنان، حيث لم يكلف الاميركيون انفسهم عناء النظر الى الخلف، ولم يعد للمسيحيين المعارضين من مرجعية قيادية يلوذون بها سوى بكركي وبطريركها. وكل من يقول ان واشنطن لم تبع المسيحيين ولم تكن هي التي تخلت عن لبنان لسوريا هو كاذب ودجال ومزور للتاريخ والوقائع، ولا سيما ان الاميركيين انفسهم يقولون ذلك.

هل انتهى الامر عند هذا الحد؟ قطعا لا، فقبل هذه "البيعة" وبعدها طار وسيطير من تبقى من مسيحيي فلسطين ممن لم يعودوا سوى رهبان يحيون شعائرهم الدينية بخفر من دون اي احساس بقيمومة سياسية لهم او شراكة يحتلونها في الصيغ الموجودة او المقترحة في اي حل "سلمي" شرق اوسطي جديد كما يحلو للاميركيين ان يسموه. هل يحتاج البطريرك الراعي وغيره الى من يقنعهم بان يهودية "دولة اسرائيل" التي اقر الكنيست قانونها الاساسي، والتي ستطبق عاجلا ام آجلا ـ اجل قريب او متوسط في اسوأ الحالات ـ لا تعني سوى طرد من تبقى من المسلمين والمسيحيين في اراضي الـ 48 الى مكان لا يعلمه الا الله؟ ولا يقولن احد ان واشنطن لا تحسن تفسير معنى "عبرانية دولة اسرائيل" او ان المشروع لم يحظ بتأييدها، لكن اين يذهب العرب من غير يهود فلسطين؟ المعروف ان الاسرائيليين والاميركيين يحدثون انفسهم وغيرهم بالاردن، وليس ذلك الا فتح لهذه المملكة على مجهول جديد.

لكن نكبة مسيحيي العراق بعد غزوه الاميركي عام 2003 جمعت كل الرذائل الاميركية والاوروبية دفعة واحدة، ولم تنته عملية "دمقرطة العراق" التي قادتها واشنطن سوى الى تقليص عدد المسيحين في هذا البلد المنكوب من نحو مليون وثلاثمئة الف الى شطب الرقم الاول، المليون، الذين تحولوا لاجئين في سوريا، لم يقم نظام بشار الاسد سوى بواجبه القومي والاخلاقي باحتضانهم وتوفير ما يحتاجونه من رعاية، فيما لم يسمع من تقارير الخارجية الاميركية الدورية عن حقوق الانسان والحريات في العالم العربي ان رفعت صوتها باكية على هذه المجموعة البشرية التي تشكل جزءا من مكونات العراق الحيوية.


ايضا لم يسمع احد من فرنسا شحذها الهمم واطلاقها تحركات انسانية ولا حتى اعلامية لكي توقف هذه المأساة التي كانت تحصل امام مرأى ومسمع القوات الاميركية وحليفاتها الاجنبية ممن شكلوا ائتلاف الغزو. السؤال التالي الذي كان البطريرك الراعي يطرحه ضمنا في مواقفه: هل يجب ان ننتظر حتى تحل المأساة هذه المرة بمسيحيي سوريا ومعهم مسيحيو العراق ممن يقيمون فيها، حتى ينعقد سينودس سياسي لن يكون سوى صرخة في واد بعد فوات الاوان؟

اي شخص متابع للتطورات في المنطقة يعرف انه لا يوجد تقدير وضع لمرحلة ما بعد بشار الاسد التي يستعجلها الفرنسيون والاميركيون: هل هي الفوضى، هل هو التقسيم، هل هي الحرب الاهلية، ام ماذا؟ الذين يعتقدون انهم يصنعون الاحداث، اي الاميركييون والاوروبيون، لا يعرفون مآلات الامور، ولا يجد البطريرك الراعي ومعاونوه في الدراسات الغربية الرصينة سوى عبارة "المجهول" يمكن ان تنطبق على المرحلة التي يريد ان توصل واشنطن وباريس وبعض العرب سوريا اليها، لكن المهم اسقاط نظام بشار الاسد، مهما كان الثمن وأياً يكن الضحايا، والكثيرون يعرفون ان عددا كبيرا من الضحايا المدنيين والعسكريين ممن يسقطون في سوريا يتم قتلهم من قبل المجموعات المسلحة ولصقها بالنظام لتجريمه بطريقة غير مسبوقة في الانقلابات السياسية والامنية؟ سؤال البطريرك الراعي الضمني، وهو موجه الى الاميركيين والفرنسيين، حصرا، لا الى ادواتهم: الى اين يذهب المسيحيون في محيط اقل ما يخطط له هو الفوضى او التقسيم او الحرب الاهلية؟ هل حينها تطبق عملية الترحيل الى اوروبا او اي مكان آخر في العالم، لمن يتبقى منهم؟ طبعا منطوق السؤال ينفي اي مراهنة على حس اخلاقي اميركي يفكر بطريقة ايجابية، ذلك ان التجربة مع اقرب الحلفاء كانت مخيبة: ماذا فعلت واشنطن لانظمتها الحليفة في مصر وتونس؟

يمكن القول ان البطريرك الراعي قدم توصيفه كملخص تنفيذي لقراءته لما يجري في المنطقة من احداث، بناءً على هوية اللاعبين ومصالحهم وقدرة كل طرف منهم في التأثير، اما الردود عليه والتي جاءت ممن ليس لهم علاقة بهذه الهواجس والحقائق، فهو اخبر بها من غيره، لا سيما عندما يسمع 14 آذار تتبنى الثورات العربية وتعتبرها من بركاتها، وهو يعرف ان هؤلاء هم اكثر من خسر من هذه الثورات التي اطاحت بالحاضنة الاقليمية لهم، ممن لم يكن لفؤاد السنيورة وسعد الحريري وسمير جعجع وامين جميل من عمل في فترة ما قبل السقوط سوى الذهاب الى القاهرة والتقاط الصور مع حسني مبارك وعمر سليمان واحمد ابو الغيط، وبثها في مطلع نشراتهم الاخبارية المتلفزة والاذاعية، ونشرها في صدر صفحاتهم المكتوبة ومواقعهم الالكترونية. فهل هؤلاء ثاروا ضد انفسهم، وهل حكام القاهرة وتونس كانوا حلفاء حزب الله ومحور المقاومة ام من دعائم المحور الاميركي الاسرائيلي؟ بقي فقط ان يمارس هؤلاء البله السياسي على البطرك ويقنعوه بانهم كانوا يستدرجون مبارك وبن علي للسقوط كما قال بيان سعد الحريري بعد انكشاف فضيحة تلفيقه شاهد الزور محمد زهير الصديق؟ ويريدون ان يقنعوه ان الاميركيين هذه المرة سيكونون حريصين على كل مكونات مجتمع انطاكيا وسائر المشرق بما فيهم المسيحيون، وان علاقة الاخيرين بتركيا احسن من سابقاتها، وباتت تسمح بتكرار نظام المتصرفية في جبل لبنان بنسخة منقحة ومزيدة.



2011-09-18