ارشيف من :آراء وتحليلات
ساركوزي... عندما يطلق العنان لأمنياته المرضية !

حتى الآن، تحققت لساركوزي أمنيّة من أعز الأماني التي يحلم بها أولئك الذين يستبد بهم الحنين إلى الفترة الاستعماربية: فبعد أن ترحرح نوعاً ما في ليبيا، ها هو يأمل بعودة مجيدة من بوابتها إلى إفريقيا التي كان قسم كبير منها يخضع طيلة قرون للاستعمار المباشر أو للهيمنة الفرنسية، قبل أن تخرج منها فرنسا بشكل شبه كامل تحت الضغط الأميركي بوجه خاص.
كما إن ليبيا، التي يرفع ثوارها شعارات من نوع "شكراً فرنسا" ويصفقون ويطلقون نداءات "الله أكبر" أمام صور ساركوزي والأعلام الفرنسية المرفوعة في ساحات طرابلس وبنغازي يمكنها، بالحيز الجغرافي الكبير الذي تمتلكه على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، وبثرواتها النفطية وبحاجتها الماسة إلى إعادة الإعمار الذي سيؤمّن عائدات ضخمة للشركات الفرنسية، أن تكون غنيمة لم يكن ساركوزي وأمثاله يحلمون بوضع اليد عليها قبل أشهر قليلة.
وبذلك، يمكنها أن تعطي دفعة قوية لمشاريع فرنسا المتوسطية في وقت بدا فيه بوضوح أن الرهانات على منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي باتت تثقل كاهل فرنسا المثقلة أصلاً بديونها السيادية وإجراءاتها التقشفية واحتقاناتها الاجتماعية.
وكل ذلك يفسر الاهتمام الذي عبر عنه وزير الخارجية الفرنسية، آلان جوبية، عندما اعتبر أن الحرب الليبية هي، بالنسبة لفرنسا، استثمار هام للمستقبل، مخالفاً بذلك دعاوى رئيسه الذي كان قد قال بتوجيه، على الأرجح، من مستشاره برنار هنري ليفي (يطلق عليه البعض عندنا لقب مفجر الربيع العربي)، بأن التدخل العسكري الفرنسي والأطلسي في ليبيا قد حال دون قتل آلاف المدنيين الليبيين على يد القذافي وكتائبه. أي إنه لم يتم لأغراض استثمارية بل لغرض إنساني مزعوم هو حماية المدنيين الليبيين.
والأكيد أن تحقق أمنيّة ساركوزي هذه قد فتح شهيته على المزيد من الأمنيّات التي راح يوزعها في جميع الاتجاهات. أولاً، باتجاه الجزائر. فقدا تنبأ بأن ما تشهده ليبيا اليوم ستشهده الجزائر مطلع العام القادم. تخيلوا الجزائر، بلد المليون شهيد الذين قتلهم الفرنسيون خلال الحقبة الاستعمارية، والبلد الذي كان يعتبره الفرنسيون امتداداً تحت مياه البحر لفرنسا القارية، والبلد الذي طرد الاستعمار الفرنسي وأذله بالشكل المعروف للجميع...
تخيلوه العام القادم وقد اندلعت فيه ثورة شعبية يرفع ثوارها أعلام فرنسا وصور ساركوزي في الشوارع والساحات العامة فوق جثث الجزائريين وأنقاض بيوتهم المدمرة بفعل القصف الفرنسي والأطلسي والعربي المتحالف مع الأطلسي.
وتخيلوا ثروات الجزائر النفطية التي تفوق ثروات ليبيا بأضعاف وأضعاف وقد صارت نهباً في أيدي أعداء الأمس الذين عادوا اليوم وقد انتحلوا صفة الأصدقاء المشفقين على الشعب الجزائري والساعين بكل أريحيتهم الإنسانية إلى تحريره من حكم الدكتاتور الطاغية!
وتخيلوا خصوصاً أكاليل الغار التي يحلم ساركوزي بأن يكلل بها رأسه يوم يدخل ظافراً إلى الجزائر العاصمة، إلى " البهجة" التي فقدت بهجتها، وسط الزغاريد والتهليل والتكبير المشابهة لتلك التي استقبل بها في طرابلس وبنغازي. فالحق يقال، إن ريكونيكستا الجزائر لها طعم أقوى بما لا يقاس من ريكونكيستا الأندلس!
أولاً، باتجاه الجزائر؛ وثانياً، باتجاه سوريا، وتحديداً خلال الزيارة التي قام بها مؤخراً إلى ليبيا مصطحباً وزير خارجيته، آلان جوبيه، ومستشاره برنار هنري ليفي، ذلك الصهيوني الفرنسي المتعصب الذي كان له فضل كبير في تنسيق أنشطة المجلس الانتقالي الليبي الديبلوماسية، وفضل أكبر بكثير في تنسيق وتوجيه وتلقين المعارضات السورية.
خلال تلك الزيارة، أطلق ساركوزي أيضاً وأيضاً أمنيّة عبّر فيها عن أمله بأن يكون مصير الشعب السوري شبيهاً بمصير الشعب الليبي. بكل ما في ذلك من مزيج الصفاقة والكراهية تجاه الشعبين الليبي والسوري وبقية الشعوب العربية، بل أيضاً، وربما لأنه ليس فرنسياً أصيلاً، تجاه الشعب الفرنسي نفسه.
مصير مشابه لمصير الشعب الليبي! اضربوا بخمسة عدد الضحايا الليبين الذين سقطوا قتلى وجرحى تحت وابل النيران القذافية والأطلسية، وكميات النفط والغاز التي ستشكل استثماراً مستقبلياً هاماً لفرنسا، ومئات المليارات التي ستتطلّبها عمليات الإعمار، وعشرات السنين التي ستضيع قبل أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة... تجدوا المصير الذي يتمناه ساركوزي للشعبين في كل من الجزائر وسوريا.
لكنها على كل حال أمنيّات صبيانية بعيدة المنال: حتى النصر المزعوم في ليبيا ما زال وليد الأكاذيب والتلاعبات. و"الجزيرة" و"العربية" والـ "بي بي سي" و"فرانس 4" تتكلم الآن عن الحرب الليبية الدائمة بلهجة مشابهة لتلك التي كانت معتمدة إبان الكر والفر بين رأس لانوف والبريقة. وفي الأجواء ما يشي بأن الأطلسي يعود إلى طريقته اللولبية في التعامل مع الأحداث. ربما لأنهم يريدون للقذافي أن يحقق بعض التفوق ليضيفوا بذلك إرباكات إلى إرباكات الثوار والمجلس الانتقالي... ضرورية من أجل إجبارهم على الانبطاح الكامل أمام الإملاءات الساركوزية والأطلسية.
أما سوريا، فقد اجتازت المحنة. والجزائر مدعوة إلى اجتيازها. وعندما يحل العام القادم ستكون أمنيّات ساركوزي قد تبخرت مع هزيمته في الانتخابات الرئاسية. وسيكون له مصير مشابه لمصير سلفه شيراك أمام المحاكم الفرنسية وربما أمام المحاكم الدولية. فما يفعله ساركوزي والأطلسي بليبيا اليوم يستحق ملاحقات أمام المحاكم الدولية بتهم أكبر من الإبادة الجماعية والجرائم بحق الإنسانية.