ارشيف من :آراء وتحليلات
خصخصة الاحتلال في العراق !!

تشير وثيقة سريّة نشرها موقع ويكيليكس الالكتروني مؤخراً الى أن مئات الموظفين في شركة "بلاك ووتر" الأمنية ما زالوا يعملون في شركات أمنية أخرى ببغداد، وتؤكد وثيقة أخرى قلق السفارة الأميركية في بغداد من الجهود العراقية لإقصاء الشركة من البلاد.
ووفقاً للبرقية الأولى المؤرخة في الرابع من شهر كانون الثاني ـ يناير 2010 فإن "هناك العديد من الموظفين السابقين في شركة "بلاك ووتر" الذين يعملون في شركات أمنية أخرى في العراق، لا سيما شركة "تريبل كانوبي" و"داينكورب" التي تقدم الحماية لنا".
وتضيف البرقية "أن السفارة تدرك أن شركة "تريبل كانوبي" توظف حالياً عدة مئات من موظفي شركة "بلاك ووتر" السابقين، وفي الوقت نفسه نعرف ان شركة "داينكورب" التي تقدم لنا خدمات امنية ودعماً بالطائرات، توظف عشرات من موظفي "بلاك ووتر" السابقين".
وربما ما زال العراقيون يتذكرون حادثة ساحة النسور وسط العاصمة بغداد في منتصف ايلول/سبتمبر عام 2007، عندما قام عناصر من شركة "بلاك ووتر" بفتح نيران اسلحتهم بصورة عشوائية على المواطنين العراقيين ليقتلوا أربعة عشر شخصاً اضافة الى جرح آخرين.
هذه الحادثة اوجدت ردود فعل وتفاعلات حادة، وخلقت ضغوطا كبيرة على الحكومة العراقية لاتخاذ اجراءات حازمة من شأنها انهاء وجود شركة "بلاك ووتر" في العراق، واعادة النظر في ضوابط وسياقات عمل جميع الشركات الأجنبية هناك.
وبالفعل، ففي عام 2009 اعلنت الحكومة العراقية رفضها القاطع تجديد عقد "بلاك ووتر"، رغم إلحاح وضغط واشنطن عليها، ما دفع الأخيرة الى الاستعانة بخدمات شركة أمنية أخرى لتأمين الحماية للسفارة وللمقرات الدبلوماسية والكوادر الأميركية العاملة في العراق سواء الحكومية منها أو غير الحكومية، وهذه الشركة هي "ترابيل كانوبي" ( الظلة الثلاثية).
وبعد مرور أكثر من عامين على حصول تلك المتغيرات، تبين صحة توقعات بعض الجهات الأمنية والسياسية العراقية، التي أكدت أن وجود شركة "بلاك ووتر" سينتهي ظاهرياً في العراق، إلا أنها ستبقى موجودة ومتحركة تحت عناوين وأشكال مختلفة، من بينها انخراط بعض عناصرها في شركات أمنية أخرى، وهذا ما حصل فعلا، عبر التنسيق بينها وبين الشركة البديلة لها وبإشراف وعلم الأجهزة الرسمية الأميركية في واشنطن وفي مقر السفارة ببغداد.
واليوم وفي خضم الجدل والسجال المحتدم حول مصير القوات الأميركية في العراق بعد نهاية العام الجاري، حيث يفترض ان تكون قد أكملت انسحابها من العراق نهائياً وفق الإتفاقية الأمنية المبرمة بين بغداد وواشنطن نهاية عام 2008، يتحدث البعض عما يطلق عليه "خصخصة الاحتلال". وهذا المصطلح يقصد به ان انهاء الوجود العسكري الرسمي ـ الحكومي في العراق امر غير ممكن ارتباطاً بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الاميركية، وفي ذات الوقت فإن بقاء القوات الاميركية بالصيغ الحالية القائمة أمر غير ممكن ـ بسبب طبيعة الظروف والمواقف والتوجهات السياسية والشعبية في المشهد العراقي التي لا تصب في اطارها العام في مصلحة واشنطن ـ لذلك فإن الخيار البديل يتمثل بتأمين وجود اميركي تحت عناوين وواجهات غير رسمية، يؤدي ذات الأغراض والأهداف والأجندات التي يؤديها الوجود العسكري وإن كان بقدر اقل.
ووفق آخر التسريبات فإنه تم الاتفاق بين الحكومتين العراقية والأميركية على ابقاء 500 عسكري أميركي بعد نهاية العام الجاري كمدربين. ولا شك بأن هذا العدد قليل جداً وفق الحسابات الاميركية، لذلك فإن إبقاء أعداد إضافية أمر لا بد منه، ولكن بصيغ أخرى يحيطها أكبر قدر من الكتمان والسرية.
وبما ان الواقع العراقي الجديد لا يحتمل إخفاء الحقائق والوقائع، لا سيما لفترات طويلة، فإن التوجه الأميركي لـ"خصخصة الاحتلال" واجه منذ خطواته الأولى عقبات وعوائق حقيقية.
ومؤخراً سرب بعض وسائل الاعلام تصريحات لمصادر في جهاز المخابرات العراقي تشير إلى إنه تم الكشف عن أن شركة "بلاك ووتر" قامت ومنذ عام 2005 بتجنيد عناصر مخابراتية أغلبهم من العراقيين، وأن عدد المجندين وصل إلى نحو 2000 عنصر يعملون لجهاز مخابراتي مستقل تابع للشركة.
وتقول المصادر ذاتها إن ما يثير حفيظة الحكومة العراقية هو سيطرة جهاز مخابرات "بلاك ووتر" على عمل عدد من الأجهزة الأمنية، ووضع يده على منظومات معلوماتية تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية فضلاً عن منظومة بيانات جوازات السفر ومصادر معلومات أخرى مهمة، وإن عددا من العناصر المجندة من قبل "بلاك ووتر" يتقلدون الآن مناصب حكومية مهمة وقريبة من صناع القرار السياسي العراقي، الأمر الذي خلق أزمة ثقة كبيرة في بعض المفاصل الحكومية العليا لا سيما مجلس الوزراء.
وعلى ضوء هذه التسريبات، طالبت أوساط سياسية وبرلمانية عراقية بفتح تحقيق حول وجود أفراد من "بلاك ووتر" يعملون حالياً في العراق باعتبار أن وجودهم يشكل خرقاً للاتفاقيات المبرمة بين العراق والولايات المتحدة، وهذا ما قاله النائب عن الكتلة "العراقية البيضاء" زهير الأعرجي، فيما أكد النائب عن كتلة "الأحرار" رياض الزيدي ان كتلته ستحاسب الشركات الأمنية العاملة في العراق التي تعاقدت مع شركة "بلاك ووتر" المحظورة عن العمل لتشغيل عناصرها، مشيراً إلى أن ملف الشركات الأمنية سيفتح داخل مجلس النواب، وأن على وزارة الداخلية التحري والتدقيق بشأن التصريحات التي تؤكد وجود مئات من الموظفين السابقين لشركة "بلاك ووتر" الذين يعملون لمصلحة شركات أخرى لحماية الدبلوماسيين في بغداد ، مجدِّدا القول بأن وجود الأميركيين في العراق خطير ومدمر للبلاد على عكس ما تراه بعض الكتل السياسية.
وكان مجلس النواب قد اعلن في شهر آب/ أغسطس الماضي، عن نيته تشريع قانون ينظم عمل الشركات الأمنية الخاصة خلال المدة القليلة المقبلة، مبيناً أن أحكامه ستسري على الشركات المحلية الخاصة وفروع الشركات الأجنبية والعاملين فيها.
وفي نهاية عام 2009 كانت وزارة الداخلية العراقية قد بادرت الى وضع عدة ضوابط لتنظيم عمل الشركات الأمنية الأجنبية العاملة في العراق، تضمنت تحديد الأسلحة المستخدمة من قبل تلك الشركات، ومنع امتلاكها للمتفجرات، فضلا عن تحديد نطاق عملها داخل الأراضي العراقية، كما تضمنت الضوابط سحب رخصة الشركة ومطالبتها بمغادرة العراق خلال أسبوع إذا لم تلتزم بهذه الضوابط.
والخطير في الأمر، أن واشنطن كانت قد أعلنت في وقت سابق نيتها جلب نحو 7000 متعاقد أمني خاص لحماية موظفيها وبعثاتها الدبلوماسية في العراق، وهو الأمر الذي أثار ردود أفعال سلبية ومخاوف حقيقية، دفعت البعض إلى القول إن الولايات المتحدة إذا خرجت من الباب ستعود الى العراق من الشباك.
ويبدو ان فترة الشهور المتبقية من العام الجاري ستشهد الكثير من المخاضات والتفاعلات بين واشنطن وبغداد، وربما سيشغل موضوع "خصخصة الاحتلال" حيزاً كبيراً من الاهتمام، إن لم يكن ظاهرياً، فبالتأكيد خلف الكواليس!.