ارشيف من :آراء وتحليلات
28 أيلول / سبتمبر. الذكرى، والعبرة

حُلُمٌ ولّى ولم يُجْرَحْ بِهِ شَرَفُ المَسعى ونُبْلُ المَطْلَبِ
شَرَفُ الوثْبَةِ أنْ تُرْضيِ العُلا غَلَبَ الواثِبُ أم لم يَغْلِبِ
(عمر أبو ريشة)
شَرَفُ الوثْبَةِ أنْ تُرْضيِ العُلا غَلَبَ الواثِبُ أم لم يَغْلِبِ
(عمر أبو ريشة)
لؤي توفيق حسن(*)
حدثان تسترجعهما المناسبة بالرغم من أنهما حاضران في تداعياتهما التي ما انفكا يلقيان بظلالهما على حاضرنا ومستقبلنا. الوحدة السورية ـ المصرية ينفك عراها في 28 ايلول/ سبتمبر 1961. وفي نفس التاريخ من عام 1970، الموت يغيب الزعيم الكبير جمال عبد الناصر.
يا لها من صدفة...
لكن حذارِ فالصدفة لا تصنع التاريخ. بل هو التاريخ يصنعها عندما يكون زاحماً بأحداثه، زاخراً بوقائعه. هذا ما كان من أمر حركة التحررالعربي بقيادة عبد الناصر، مع كل ما خالطها من نجاحاتٍ، أو اخفاقات. من صعودٍ، او هبوط.
جاء الإنفصال ضربةً (لمشروع) الوحدة العربية، وليس لفكرتها قط. بدليل ان الإنفصال ذاته شهد ممانعة شعبية منذ يومه الأول. مظاهرات تعم المدن السورية. فيما حركة الضباط الإنقلابيين واجهت في اليوم ذاته تمرداً عسكرياً شهدته المنطقة الشمالية، وسط تردد، او إحجام قطعات عسكرية أخرى عن تأييد حركتهم. ضمن هذا الجو كان إجهاض الحركة في قبضة اليد، فقط لو استطاع المشير عبد الحكيم عامر ان يطوق الأمر في اجتماعه بدمشق مع الانقلابيين، وبالأخص الفريق الذي جاء انضمامه للحركة كرد فعلٍ على سخطهم العائد لأسباب محض شخصية. هذه أمور يعرفها جيداً كل من عايش تلك المرحلة، ولمس دقائقها، من أخطرها عدم كفاءة عبد الحكيم عامر في التعامل مع المواقف الصعبة. ما أعطى للفريق الآخر من الضباط الضالعين فعلاً بالمؤامرة سنداً. هذا باعتبارأن ثقلهم العسكري كان ما زال محدودا.
بعد اقل من ستة اشهر قام تمرد كبير في الشمال امتد الى مناطق سورية عدة فيما يعرف بـ "ثورة حلب". كادت هذه ان تطيح بحكومة دمشق الإنفصالية. لولا بعض الضباط من أصحاب الرتب الكبيرة في المنطقة الوسطى الذين انكفأوا في اللحظة الحاسمة!، بعد أن اتضح لهم ان الثورة لن تخدم حساباتهم السلطوية. فأجهضت وهي على وشك ان تحقق أهدافها، هذا لكون المنطقة المذكورة هي الثقل العسكري في وجه سلطة الانفصال.
هذا الوقائع أسوقها للقارئ وهي بعض ما سمعته من المرحوم والدي وقد كان لصيقاً ببعضها، شريكاً في صناعة بعضها الآخر الى حدود أن حُكم عليه بالإعدام لدوره المفصلي في "ثورة حلب"!. وأنا إذ أسوق ما سبق أتجاوز ما قد يجره عليّ من اتهام البعض لي بالتباهي!، لحساب توثيق الحدث بشاهد شارك في صنع بعض مشاهده، فضلا عن ثقتي في مصداقيته.
كما ذكرنا لم يستطع الإنفصال ان يقضي على فكرة الوحدة العربية فبعد سنة ونيف من عمر(الإنفصال الأول!) جاءت حركة 8 آذار/ مارس 1963 بهدف محدد وهو: عودة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر. وفي هذه المرة تم تكبير دائرتها بانضمام العراق بعد اسقاط عبد الكريم قاسم في حركة 8 شباط/ فبراير 1963. وهكذا أُعلِنَ "ميثاق 17 نيسان/ابريل" مبشراً بقيام دولة "الجمهوريات العربية المتحدة" التي تضمن مصر وسوريا والعراق. لكن القيادات في البلدين الأخيرين غلبت عليها الحسابات الضيقة القصيرة النظر، فأُجهض الإتفاق المذكور بعد ثلاثة أشهر. فيما فشلت تلك القيادات فيما بينها في توحيد سوريا والعراق بالرغم من انهما من حزب واحد.
بعد تسع سنوات مما سبق سعى الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد توليه السلطة لتدارك ما فات، فكان "اتحاد الجمهوريات العربية" عام 1971، ضاماً مصر، سوريا، وليبيا.
لقد كان هذا الإتحاد مَعقد الرجاء لترسيخ كونفدرالية عربية تستوعب مع قادم السنين دولاً أخرى متشابهة. لكن ومرة جديدة يتبدد الأمل هذه المرة بيد أنور السادات عندما انسحب ليتفرد بالقرار السياسي من غير شريكه الآخر في حرب تشرين/اكتوبر؛ عاقداً تلك التسوية المشؤومة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن (الإنفصال الأول) جاء بفعل مؤامرة مدبرة من الخارج، مدفوعة الثمن وبمبلغ وقدره "12 مليون جنيه استرليني" كما اعترف بذلك الملك سعود للرئيس عبد الناصر عندما جاءه الى القاهرة لاجئاً سياسياً بعد ان خلعه أخوه فيصل عن العرش!. ويمكن لمن يريد الوقوف على التفاصيل العودة لكتاب محمد حسنين هيكل؛ "عبد الناصر والعالم" ـ لا سيما (الصفحة 281) ـ.
لعل ما سبق يؤكد بما لا يقطع مجالاً للشك بأن الإنفصال جاء من فوق رأس الشعب السوري، وبالرغم من إرادته. وليس كما حاول أصحاب الدعاية المغرضة الترويج للإنفصال بوصفه "انتفاضة" عبَّرت عن "سخط السوريين على التسلط المصري"!!... هذا كان محض تزوير، وافتراء لا صحة له.
ليس هذا أو ذاك لكي نبرّئ الوحدة من أخطاءٍ، وارتكابات. ولكن لكي نردّ الأمور الى حجمها الحقيقي. وعندها ستسطع حقيقة وهي ان المسؤول الأول عن بلوغ مؤامرة الإنفصال مبتغاها هو الجغرافيا بالدرجة الأولى والأخيرة.
ان مؤامرة الإنفصال كانت من الهشاشة منذ بدايتها ما لا يلزم لقمعها خوض معارك كالتي خاضتها مثلاً أمريكا في القرن التاسع عشر كيما تستعيد "اتحادها". لكنها الجغرافيا وقفت حاجزاً. ومن يدرك هذه الحقيقة يلمس المغزى والغاية من قيام الكيان الصهيوني في فلسطين.
لقد شكلت جريمة الإنفصال أول نجاحات الثورة المضادة، التي مهدت لنكسة 1967 . تماماً كما شكل غياب الرئيس جمال عبد الناصر وأداً للمشروع "القومي". وهذا يدفع هنا لاستنتاجين سريعين الآن:
الأول: ان العديد من آمال شعوبنا تكسرت بفعل أيدينا أكثر مما فعله الخارج بها.
الثاني: ان مشاريعنا السياسية تستمد حياتها من همة أصحابها. وبذا كان "المشروع القومي" حركة في شخص عبد الناصر. حتى إذا ما رحل الشخص غاب "المشروع". ما يطرح على بساط البحث ترسيخ "المؤسسات" كبديل عن قيادة الفرد الكارزماتية. التي ما عاد يتحملها الزمن. حتى لو أفسحت الصدفة لها متسعا!. لأنها سرعان ما ستضيقها عليه لاحقاً!.
ترى كيف، ومتى يمكننا الإستفادة من الإستنتاجين السابقين لبناء المستقبل؟.
إنها بحد ذاتها قضيةٌ لها شؤون... وشجون.
(*) كاتب لبناني
حدثان تسترجعهما المناسبة بالرغم من أنهما حاضران في تداعياتهما التي ما انفكا يلقيان بظلالهما على حاضرنا ومستقبلنا. الوحدة السورية ـ المصرية ينفك عراها في 28 ايلول/ سبتمبر 1961. وفي نفس التاريخ من عام 1970، الموت يغيب الزعيم الكبير جمال عبد الناصر.
يا لها من صدفة...
لكن حذارِ فالصدفة لا تصنع التاريخ. بل هو التاريخ يصنعها عندما يكون زاحماً بأحداثه، زاخراً بوقائعه. هذا ما كان من أمر حركة التحررالعربي بقيادة عبد الناصر، مع كل ما خالطها من نجاحاتٍ، أو اخفاقات. من صعودٍ، او هبوط.
جاء الإنفصال ضربةً (لمشروع) الوحدة العربية، وليس لفكرتها قط. بدليل ان الإنفصال ذاته شهد ممانعة شعبية منذ يومه الأول. مظاهرات تعم المدن السورية. فيما حركة الضباط الإنقلابيين واجهت في اليوم ذاته تمرداً عسكرياً شهدته المنطقة الشمالية، وسط تردد، او إحجام قطعات عسكرية أخرى عن تأييد حركتهم. ضمن هذا الجو كان إجهاض الحركة في قبضة اليد، فقط لو استطاع المشير عبد الحكيم عامر ان يطوق الأمر في اجتماعه بدمشق مع الانقلابيين، وبالأخص الفريق الذي جاء انضمامه للحركة كرد فعلٍ على سخطهم العائد لأسباب محض شخصية. هذه أمور يعرفها جيداً كل من عايش تلك المرحلة، ولمس دقائقها، من أخطرها عدم كفاءة عبد الحكيم عامر في التعامل مع المواقف الصعبة. ما أعطى للفريق الآخر من الضباط الضالعين فعلاً بالمؤامرة سنداً. هذا باعتبارأن ثقلهم العسكري كان ما زال محدودا.
بعد اقل من ستة اشهر قام تمرد كبير في الشمال امتد الى مناطق سورية عدة فيما يعرف بـ "ثورة حلب". كادت هذه ان تطيح بحكومة دمشق الإنفصالية. لولا بعض الضباط من أصحاب الرتب الكبيرة في المنطقة الوسطى الذين انكفأوا في اللحظة الحاسمة!، بعد أن اتضح لهم ان الثورة لن تخدم حساباتهم السلطوية. فأجهضت وهي على وشك ان تحقق أهدافها، هذا لكون المنطقة المذكورة هي الثقل العسكري في وجه سلطة الانفصال.
هذا الوقائع أسوقها للقارئ وهي بعض ما سمعته من المرحوم والدي وقد كان لصيقاً ببعضها، شريكاً في صناعة بعضها الآخر الى حدود أن حُكم عليه بالإعدام لدوره المفصلي في "ثورة حلب"!. وأنا إذ أسوق ما سبق أتجاوز ما قد يجره عليّ من اتهام البعض لي بالتباهي!، لحساب توثيق الحدث بشاهد شارك في صنع بعض مشاهده، فضلا عن ثقتي في مصداقيته.
كما ذكرنا لم يستطع الإنفصال ان يقضي على فكرة الوحدة العربية فبعد سنة ونيف من عمر(الإنفصال الأول!) جاءت حركة 8 آذار/ مارس 1963 بهدف محدد وهو: عودة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر. وفي هذه المرة تم تكبير دائرتها بانضمام العراق بعد اسقاط عبد الكريم قاسم في حركة 8 شباط/ فبراير 1963. وهكذا أُعلِنَ "ميثاق 17 نيسان/ابريل" مبشراً بقيام دولة "الجمهوريات العربية المتحدة" التي تضمن مصر وسوريا والعراق. لكن القيادات في البلدين الأخيرين غلبت عليها الحسابات الضيقة القصيرة النظر، فأُجهض الإتفاق المذكور بعد ثلاثة أشهر. فيما فشلت تلك القيادات فيما بينها في توحيد سوريا والعراق بالرغم من انهما من حزب واحد.
بعد تسع سنوات مما سبق سعى الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد توليه السلطة لتدارك ما فات، فكان "اتحاد الجمهوريات العربية" عام 1971، ضاماً مصر، سوريا، وليبيا.
لقد كان هذا الإتحاد مَعقد الرجاء لترسيخ كونفدرالية عربية تستوعب مع قادم السنين دولاً أخرى متشابهة. لكن ومرة جديدة يتبدد الأمل هذه المرة بيد أنور السادات عندما انسحب ليتفرد بالقرار السياسي من غير شريكه الآخر في حرب تشرين/اكتوبر؛ عاقداً تلك التسوية المشؤومة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن (الإنفصال الأول) جاء بفعل مؤامرة مدبرة من الخارج، مدفوعة الثمن وبمبلغ وقدره "12 مليون جنيه استرليني" كما اعترف بذلك الملك سعود للرئيس عبد الناصر عندما جاءه الى القاهرة لاجئاً سياسياً بعد ان خلعه أخوه فيصل عن العرش!. ويمكن لمن يريد الوقوف على التفاصيل العودة لكتاب محمد حسنين هيكل؛ "عبد الناصر والعالم" ـ لا سيما (الصفحة 281) ـ.
لعل ما سبق يؤكد بما لا يقطع مجالاً للشك بأن الإنفصال جاء من فوق رأس الشعب السوري، وبالرغم من إرادته. وليس كما حاول أصحاب الدعاية المغرضة الترويج للإنفصال بوصفه "انتفاضة" عبَّرت عن "سخط السوريين على التسلط المصري"!!... هذا كان محض تزوير، وافتراء لا صحة له.
ليس هذا أو ذاك لكي نبرّئ الوحدة من أخطاءٍ، وارتكابات. ولكن لكي نردّ الأمور الى حجمها الحقيقي. وعندها ستسطع حقيقة وهي ان المسؤول الأول عن بلوغ مؤامرة الإنفصال مبتغاها هو الجغرافيا بالدرجة الأولى والأخيرة.
ان مؤامرة الإنفصال كانت من الهشاشة منذ بدايتها ما لا يلزم لقمعها خوض معارك كالتي خاضتها مثلاً أمريكا في القرن التاسع عشر كيما تستعيد "اتحادها". لكنها الجغرافيا وقفت حاجزاً. ومن يدرك هذه الحقيقة يلمس المغزى والغاية من قيام الكيان الصهيوني في فلسطين.
لقد شكلت جريمة الإنفصال أول نجاحات الثورة المضادة، التي مهدت لنكسة 1967 . تماماً كما شكل غياب الرئيس جمال عبد الناصر وأداً للمشروع "القومي". وهذا يدفع هنا لاستنتاجين سريعين الآن:
الأول: ان العديد من آمال شعوبنا تكسرت بفعل أيدينا أكثر مما فعله الخارج بها.
الثاني: ان مشاريعنا السياسية تستمد حياتها من همة أصحابها. وبذا كان "المشروع القومي" حركة في شخص عبد الناصر. حتى إذا ما رحل الشخص غاب "المشروع". ما يطرح على بساط البحث ترسيخ "المؤسسات" كبديل عن قيادة الفرد الكارزماتية. التي ما عاد يتحملها الزمن. حتى لو أفسحت الصدفة لها متسعا!. لأنها سرعان ما ستضيقها عليه لاحقاً!.
ترى كيف، ومتى يمكننا الإستفادة من الإستنتاجين السابقين لبناء المستقبل؟.
إنها بحد ذاتها قضيةٌ لها شؤون... وشجون.
(*) كاتب لبناني