ارشيف من :آراء وتحليلات

أردوغان والمنطقة... الشيء... وضده

أردوغان والمنطقة... الشيء... وضده
مصطفى الحاج علي

يجول الزعيم التركي أردوغان ويصول في المنطقة، وهو لا يكاد يحط في بلدٍ عربي أو اقليمي حتى يطير الى آخر، خائضاً في أكثر من ملف، ومحارباً على أكثر من جبهة، وهو في هذا كله يجمع بين الشيء وضده! يصعّد خطابياً مع الكيان الاسرائيلي في لغة يشوبها العنفوان والكرامة الوطنية وصولاً الى طرد السفير الاسرائيلي من أنقرة، وفي المقابل يشرع الأبواب أمام منظومة رادارات هي جزء عضوي من منظومة الدرع الصاروخية التي تطاول وظيفتها الاستراتيجية جيران تركيا العرب والايرانيين اضافة الى روسيا، وهي ـ بالتالي ـ جزء من "الحوض الاستراتيجي الأمني" لحماية الكيان الاسرائيلي، ولضمان المصالح الغربية في المنطقة. يكمل هذا الدور استمرار انخراط تركيا في حلف الأطلسي وعملياته في المنطقة، هذا الحلف الذي عدّل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي من استراتيجيته لتتلاءم مع الأوضاع الجديدة، والذي يشكل الكيان الاسرائيلي العضو غير المنظور فيه، اضافة الى منظومة دول عربية أخرى مع الاشارة هنا، الى أن الولايات المتحدة وأوروبا أرادتا من هذا الحلف أن يشكل إطاراً موضوعياً لتحالف عريض وتعاون وثيق يشمل الكيان الاسرائيلي، ومنظومة دول الخليج.

في موازاة ذلك، يحمل أردوغان ملف الدولة الفلسطينية ويعمل كرأس حربة له، في الوقت الذي ترفض فيه انقرة منح الأكراد أية حقوق يشتمّ منها نوازع استقلالية.

كما إنه يكسو نفسه ـ أي اردوغان ـ بعباءة اسلامية من نسيج وحياكة تركية خاصة، تحاول تجسيد نموذجها الخاص القائم على الجمع بين الاسلام والليبرالية، مشكلاً بذلك قاعدة لتحركه في بلدان الانتفاضات ليلعب دور الراعي من جهة، ودور المناصر لها من جهة أخرى، رافعاً من عقيرة رفضه لما يجري في سوريا الى حدود التنديد القصوى ضد النظام والرئيس الأسد بعد محاولات ليفرض نفسه كمرشد أعلى أو صاحب سلطوية أبوية لا تقبل الرفض على كلٍ منهما.

هذه الصورة الاجمالية لواقع السياسة التركية الحالية، وهي صورة يشوبها الكثير من الغموض وعدم الوضوح، والكثير من التوتر والاضطراب، تطرح أسئلة فعلية حول حقيقة المقاصد التركية، والأسباب الموجبة لهذه الصورة.

منذ وصول حزب العدالة والتنمية الى مقاعد السلطة في تركيا، وهو يعمل على التأسيس لمرحلة جديدة في مسار السياسة التركية موقعاً ودوراً، وذلك بالارتكاز الى مجموعة عوامل محددة، أبرزها:

أولاً: اعادة صياغة الهوية الوطنية التركية مع مراعاة مجموعة من الاعتبارات:

أ ـ الاتجاه الاسلامي المتنامي في المجتمع التركي وخصوصاً أن القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية تضم ربع هذه القاعدة.

ب ـ الاتجاه الليبرالي والعلماني مراعاةً للوجه الاوروبي لتركيا، ولمتطلبات الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، ولعدم إحداث قطيعة نهائية مع الوجه الاتاتوركي لتركيا، وهكذا جرى توزيع الأدوار، فالدولة تحكم للبعد الليبرالي، في حين تراعى الاعتبارات الاسلامية في المجتمع.

ثانياً: العمل على تصفير المشاكل مع الجيران، وهي الاستراتيجية المنسوبة الى وزير الخارجية داود اوغلو، وذلك لمصلحة تعميق أواصر الجغرافيا والتاريخ، اضافة الى الأواصر الاقتصادية والتفاعل الحيوي بين الشعوب والدول المجاورة.

ثالثاً: السعي الى استعادة الأدوار التاريخية التي كانت تلعبها تركيا العثمانية في النظامين الاقليمي والدولي، وإن بثياب جديدة، ووسائل مستحدثة.

تعكس هذه الاستراتيجية بعمق الواقع الجيوبوليتيكي لتركيا داخلياً وخارجياً: داخلياً حيث التوازنات الدقيقة على كافة المستويات بين الاتجاهات الاسلامية والليبرالية، وخارجياً، حيث ان موقع تركيا الجغرافي يجعلها موزعة الانتماء والهوية بين الغرب بمصداقه الاوروبي، والشرق بمصداقه العربي والاسلامي على نحوٍ رئيس، واذا كانت انقرة حاولت مراراً وتكراراً تغليب هويتها الاوروبية على هويتها الاسلامية من دون أن تحصد نتائج تذكر لأسباب تتعلق بأوروبا نفسها، فإن سياقات التطورات الداخلية، معطوفة على فشل الانضمام الكامل الى الاتحاد الاوروبي، ومصحوبة مع التغيرات العميقة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعيد تخبّطات المشروع الاميركي للهيمنة، ومحاصرة القوة الاسرائيلية الطاغية بحدود دقيقة يصعب تجاوزها، محولة إياها من قوة مطلقة الى قوة مقيّدة ونسبية، وبُعيد الضعف العام الذي أصاب عواصم الدول العربية المركزية ذات الثقل في الموقع والدور كمصر والرياض، ما أوجد في العموم حالة فراغ مركّبة وفرصاً سانحة أمام تركيا قوامها:

أ ـ فراغ عربي ذو طبيعة سنية بالمعنى المذهبي.

ب ـ فراغ امبريالي له صلة بالفشل الاميركي، وفقدانه القدرة على المبادرة الهجومية السابقة.

ج ـ تراجع المكانة الاسرائيلية.

مجموع هذه الأمور شكل لتركيا فرصاً للانخراط في دور فاعل في المنطقة لتحجز لها مكانة استراتيجية فيه على كافة المستويات، ما يتطلب منها، في المقابل:

أ ـ ملء الفراغ الغربي الذي تفاقم اكثر مع ظاهرة الانتفاضات العربية.

ب ـ ملء الفراغ الاميركي، ما يعني السعي للعب دور الشريك في هذا المشروع من خلال لعب دور الوكيل الفرعي لمشروع الهيمنة الامبريالية.

ج ـ انجاز هذين الهدفين، لا بد من ان يصطدم مع الكيان الاسرائيلي الذي يأمل في ملء الفراغ، وأن يبقى الوكيل الحصري لمصالح الغرب في المنطقة.

من هنا، فإن التصادم التركي مع الكيان الاسرائيلي ليس مبدئياً، بقدر ها هو تصادم مصالح بين الاثنين، فاقم منه ان أردوغان عمل على استثمار هذا التصادم لخدمة توجهاته السياسية الجديدة في المنطقة، بمعنى أن الصوت المرتفع لأردوغان في مواجهة الكيان الاسرائيلي، هو ضرب من ضروب الاستثمار في الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية:

أ ـ تحقيق التفاف تركي واسع حول سياسته من خلال التركيز على بُعدي الكرامة والعنفوان الوطنيين، لا سيما بعد ما جرى لأسطول الحرية.

ب ـ تسويق نفسه وسياسته في الشارع العربي، بما يوفر له لاحقاً تسويق، ليس فقط نموذجه السياسي، وانما نموذج علاقاته مع الكيان الاسرائيلي في مقابل النماذج الأخرى الجدية خصوصاً نموذج المقاومة.

ج ـ تقديم صورة الدولة المستقلة وغير الملحقة بالكامل بالسياسة الاميركية، بما يسمح لها بلعب دور الوكيل من دون القدرة على توجيه اتهامات مباشرة أو صريحة لها.

من الواضح، أن هذه الاستراتيجية في العمق تتصادم جوهرياً مع محور المقاومة والممانعة في المنطقة، والممتد من ايران الى سوريا فلبنان وفلسطين، اما سمات التصادم فتبرز في:

أ ـ ان هذا المحور يقدم نفسه كنقيض للمشروع الاميركي، ولا يرى امكان التفاهم معه إلا اذا تخلى عن طبيعته العدوانية ونزعته الامبريالية للهيمنة، وكما دعمه للكيان الاسرائيلي. في حين ينطلق أردوغان أصلاً من خلفية التحالف مع هذا المشروع، ومن موقع أنه يشكل أحد عناصر أدواته من خلال حلف الأطلسي.

ب ـ ان هذا المحور يقدم نفسه كحركة مقاومة لا تعترف بأصل وجود الكيان الاسرائيلي، وفي حين يقر أردوغان بشرعية واقعية لهذا الكيان، ويرى التعامل معه بندية كما يتم التعامل مع أي دولة أخرى.

ج ـ ان نظرة اردوغان الى حدود دور الاسلام وطبيعته تختلف في الحد الأدنى عن نظرة ايران، التي لا ترى امكان الجمع أو الفصل بين اسلام المجتمع واسلام السلطة.

وهذا الخلاف يشمل في الحقيقة أيضاً باقي حركات الاسلام السياسي لا سيما تنظيم الاخوان، ولعل هذه أحد أبرز النقاط التي جعلت وداع اردوغان في مصر سلبياً على عكس استقباله.

من ضمن هذا المنظور الشامل للحركة التركية الحالية نستطيع أن نضع ايدينا على الأسباب العميقة لهذا الانقلاب في الموقف الأردوغاني من سوريا ورئيسها، وهذا الانتقال المرتبك من استراتيجية تصفير الأزمات مع الجيران الى استراتيجية تصنيع المشاكل والتوترات معها.

2011-09-29