ارشيف من :آراء وتحليلات

أرباب "الاموال الوظيفية" يطبعون العملة ويراكمون الديون والمواطنون يختنقون

أرباب "الاموال الوظيفية" يطبعون العملة ويراكمون الديون والمواطنون يختنقون
صوفيا ـ جورج حداد*

ان الدول الـ15 الاكثر مديونية في العالم هي كلها من الدول المتقدمة. ولأخذ فكرة عن مدى جدية أزمة الديون العالمية، يكفي ان نذكر ان مديونية الولايات المتحدة الاميركية قد ارتفعت خلال العقد الاخير من 6 الى 15 تريليون دولار (التريليون يساوي الف مليار، او مليون مليون = 1.000.000.000.000). وبلغ العجز الاميركي في منتصف هذه السنة 1،6 تريليون دولار، وهو يزيد عن العجز المسجل سنة 2009 (1،4 تريليون) والعجز المسجل سنة 2010 (1،3 تريليون). واذا استمرت هذه المعدلات كما هي حتى الان، فإن نسبة الدين العام الاميركي الى الناتج القومي القائم ستصل الى مستوى النسبة ذاتها كما في اليونان الان، في اقل من اربع سنوات. وتطرح الان على جدول الاعمال في اميركا مسألة ايجاد فرص عمل جديدة في اقرب وقت ممكن. والجميع في الولايات المتحدة ينتظرون بفارغ الصبر ان يتم العثور على سلاح جديد لمكافحة الأزمة، دون الاهتمام كثيراً هل سيكون هذا السلاح جديداً او سلاحا قديما منسياً.

ان ظاهرة الدين العام الهائل والوقوع في العجز عن الدفع هي ظاهرة متكررة معروفة في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي. وللمثال فإن علماء الاقتصاد قد رصدوا أن فرنسا قد وقعت في الإفلاس خلال المائتي سنة المنصرمة بمعدل وسطي كل 26 سنة. ويدل التاريخ أنه لدى وقوع مشاكل للنظام الإقتصادي غير قابلة للحل، فإن تأثيرات هذه المشاكل تتجمع على المستوى الوطني لتتخذ الشكل الأخطر للنظام، أي شكل الدين العام. والآن فإن مشكلة المديونية قد تحولت الى مشكلة فوق ـ وطنية، بحيث أن عجز إحدى الدول ينعكس مباشرة على الدول المجاورة، أما بسبب عدم حل المشاكل ذاتها في البلدان المعنية، وإما بسبب الإرتباط الكثيف، إقتصادياً ومالياً، فيما بين مجموعة البلدان المعنية.

وتنشأ حدة مسألة المديونية من حجم الدين، ومن العجز الراهن والمتوقع في ميزانية الدول، ومن معدل النمو الراهن والمتوقع. فإذا كان معدل النمو لا يغطي العجز (والفوائد المرتبطة به)، يتحتم الوقوع في دوامة الإستدانة. وهنا يتم الوقوع في الفخ التالي: الحقيبة الفارغة من وسائل المعالجة. وها قد مرت ثلاث سنوات على الأزمة الأخيرة، ونسبة الفوائد السنوية للبنوك المركزية لا تزال تدور حول الصفر.

وخلال هذه المدة عمد نظام الريزرف الفيديرالي (الذي يقوم بمقام البنك المركزي الاميركي) الى طباعة إصدارين لكميات جديدة من الدولارات، ولكن أمواج هذه الأموال الطازجة لم تؤتِ النتائج المرجوة منها. والسبب هو أن المستهلك، الذي يعاني من دوامة الدين ذاتها، على المستوى الشخصي، فهو أيضا يسعى لأن يحد من العجز في الميزانية العائلية ولا يجد مدخولاً جديداً في الافق المنظور. وبوسائل العلاج المستخدمة حتى الآن، فإن النمو الإقتصادي المتوقع، الذي يضع تحت السيطرة عجز الميزانية المتنامي (جنباً الى جنب مدفوعات الفوائد)، لن يتحقق في وقت قريب.

ففي قاع حقيبة وسائل العلاج توجد وسيلة علاج تسمى "الاموال الوظيفية". وهي نظرية اقتصادية، ولدت في ظروف الأزمة الخانقة في الثلاثينيات من القرن الماضي. وتؤكد هذه النظرية أنه اذا كان بالإمكان طباعة العملة، فهذا يعني أنه لن يتم الإفلاس ابداً. وأكثر من ذلك، فإن هذه النظرية تعطي أرباب "الاموال الوظيفية" حرية التصرف: فأولا، ينبغي تحديد غاية وحجم الإنفاق، وبعد ذلك يتم طبع الكمية المطلوبة من العملة؛ وحينما تدخل كمية العملة الجديدة في الدورة المالية، يجري العمل لاسترجاع قسم منها بواسطة الضرائب ورمي القسم المسترجع في الموقدة. فأرباب "الاموال الوظيفية" لا يحتاجون واقعياً الى أموال الضرائب، وهم ليسوا مرتبطين بها، طالما انهم يستطيعون أن يطبعوا من العملة بقدر ما يشاؤون وفي أي وقت يشاؤون.

وبحسب هذه النظرية، التي يدعو اليها عدد من نواب الكونغرس الأميركي، فإن دور الضرائب لا يعدو كونه وسيلة لاضفاء الشرعية على الأموال المطبوعة، عبر الزام الناس باستمرار كي يحتاجوا لهذه الاموال، ويعملوا للحصول عليها، من أجل دفع الضرائب المفروضة.

وبحسب هذه النظرية ذاتها، فإنه اذا باع أحد الأجانب سلعة ما في السوق الأميركي، فيتم الدفع له من الحساب المالي للشاري الأميركي. وإذا أراد أحد البائعين الأجانب أن يتخلص من العملة الأميركية، فعليه أن يجد راغباً أجنبيا آخر بامتلاكها، او أن يشتري شيئا من السوق الأميركي، او أن يشتري شيئا من سوق آخر بالعملة الاميركية. وفي كل هذه الحالات ليس على الرأسماليين الأميركيين إلا أن ينقلوا العملة من حساب إلى حساب اخر، ولا شيء سوى ذلك. كم هو حجم الاموال في هذه الحسابات وكم هو حجم الفوائد المترتبة عليها، فليس لذلك أي أهمية، لأن الاثنين يمثلان تسجيلات متتالية للحسابات في السوق الاميركي.

ربما يقول البعض إن ذلك يقلب الأشياء رأسا على عقب. ولكن حينما تسير الأمور باتجاه خلع السراويل، فإن الوقوف رأسا على عقب هو أفضل وضعية يمكن ان يطبقها مالكو مطابع العملة. وفي الحقيقة، وبوجود فخ المديونية الحالي، فإن الامور هي جدية جداً. وفي ظروف العجز التجاري المزمن، فاذا بدأ الاستهلاك الجامد يتقدم، فإن الحسابات الأجنبية سوف تتضخم. فالاستهلاك المرتفع من شأنه ان يرفع نسبة الفائدة، وبالتالي سيرتفع بالنسبة ذاتها حجم تسجيلات الحسابات الأجنبية. واذا تضخمت الحسابات بنتيجة نمو حقيقي، فإن الامور تكون تحت السيطرة، ولكن اذا نمت تلك الحسابات بدون تقدم الاقتصاد، فهذا يؤول الى تخفيض قيمة العملة. وقد بدأت حاليا تسمع اصوات تطالب بتنويع التوظيفات الخارجية، من خلال بيع الأصول غير المالية كالأراضي الصالحة للزراعة، ومشاريع البنى التحتية، والثروات الباطنية وغيرها. ولكن هذا لا يمكن ان يحدث بين ليلة وضحاها، في حين أن نسبة تخفيض قيمة الدولار تجري ببطء، وطبقا لذلك فإن سياسة الفوائد المتدنية يمكن أن تثبت. وحتى الان فإن اميركا تعد أنها بواسطة تدابير مختلفة يمكن ان تثبت حتى سنة 2013. وكما سبق وقال يوما ونستون تشرشل: "يمكن دائما الاعتماد على الاميركيين، بأن يتصرفوا بشكل صحيح، بعد ان تكون جميع الامكانيات قد استنفدت".

والى أي مدى يمكن أن تتحمل أوروبا هذا الوضع، الذي خرجت فيه عن السيطرة عائدية الدين السيادي في العديد من البلدان؟ ان الخطر يكمن في أن الخسائر الاحتمالية للبنوك التي تأخذ على عاتقها الدين اليوناني يمكن بين ليلة وضحاها أن تتحول الى خسائر واقعية، وحينئذ سيبدأ فعل تساقط احجار الدومينو.

إن اوروبا تعاني عجزاً حاداً منذ بداية التفاهم لأجل التوصل الى قرار اساسي وطويل الامد حول مستقبل اليورو. ومنذ ذلك الحين فإن الأزمات النظامية يجري التغلب عليها على المستوى النظامي. ولكن القادة الاوروبيين، وعوضا عن أن يحموا البلدان المدينة والمهددة بالافلاس في منطقة اليورو، فإنهم يعملون على ايجاد حوافز خاطئة وآمال فارغة.

والسؤال الجوهري هو: هل يوجد قادة سياسيون في أوروبا واميركا مستعدين للتضحية بمستقبلهم السياسي في عملية البحث عن قرارات عامة أساسية وتفاعل فعال وتنسيق على مختلف المستويات؟

حتى الآن لا توجد أي مؤشرات على ذلك. وفي الشهرين الماضيين فإن رجال البنوك الاميركيين سحبوا من زملائهم الاوروبيين المستنزفين اكثر من 100 مليار دولار من الودائع. ان "شراء الوقت" يصبح أكثر كلفة، خصوصا حينما يتم بشكل فردي ومجتزأ. وفي هذا الوقت تجري في آسيا عمليات من شأنها تقصير الوقت ورفع سعر اتخاذ القرارات في أميركا وأوروبا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل
2011-09-30