ارشيف من :آراء وتحليلات

تخاطب بارد مع "المجلس الانتقالي السوري"

تخاطب بارد مع "المجلس الانتقالي السوري"
الحرية الحقيقية ليست الحق الذي يجيز للإنسان أن يختار الشر... (برتراند رسل).

لؤي توفيق حسن(*)

ليس مستهجناً ان تصاب رؤوس الأنظمة الاتوقراطية بداء البارانوي. فبريق السلطة، جاهها، أضواؤها وامتيازاتها؛ فضلاً عن نفاق الحاشية والأعوان، وأصحاب المصالح. كلها جميعاً تطرد في الغالب صفاء الرؤية التي بها وحدها يدرك المرء حكمة سقراط: "اعرف نفسك". لكن ماذا عن (المعارضة) السورية؟!. وأعني بالتحديد ما يسمى: "المجلس الانتقالي" ذلك بعد أن أصابه عطب البارانوي ولم يستحوذ بعد على سلطةٍ ولا أخواتها!!. الا بعض ما تستلزمه لعبة تضخيم الأدوار التي يتولاها من هم وراء المجلس المذكور.

لا شيء بين أيديهم الا ما يمنّ به الغرب من آمالٍ في ان سقوط النظام السوري "مسألة وقت". هذا فضلاً عن المال الذي بات عند بعضهم مجرد فرصة سانحة للإثراء الشخصي!. حتى قال أحد المحللين في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية: "لقد حوّلنا المعارضة الى مهنة"، مشيراً الى الدعم المالي الذي يبذل لأعضاء "المجلس الانتقالي"!.

لا شيء بين أيديهم فعلاً، إلا محاولات السطو على تنسيقيات الشباب في الداخل السوري إغراءً بالمال، أو شراء بعض القتلة للقيام بأعمال العنف بغية استدراج السلطة الى (فخ) العنف المضاد على أمل ان يصبح وحلاً تغرق به، وتزداد عزلة.

هذا وقد سها عنهم ان المال لا يصنع ثواراً. بل إن الحقيقيين منهم أفسده المال في الغالب الأعم. هذا ما رأيناه ـ على سبيل المثال ـ مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كان السبب الأول لاندحارها في لبنان انها كانت منخورة للعظم بالفساد حتى سهل اختراقها من الموساد في أكثر من موقع حساس.

لعل من أبرز ارهاصات هذا الفساد في صفوف (أقطاب، وشخصيات) المجلس المذكور، ما أخذت تتناقله الألسن في التنسيقيات نفسها من أن ما يدفع من مال يذهب معظمه بين جيوب الذي يقبضه من المصدر، وبين من ينقله، ثم من يوزعه في الداخل!!!.

ما أشبه وضع هذا المجلس بجماعة "14 آذار في لبنان" من حيث ان الخارج باعث قرارهم. فيما المال وقود نشاطهم، والطائفية مناخهم يسبحون فيه!. لا بل إن نظيرهم اللبناني كان بحال افضل: السلطة بيده، والمال الأوفر، ونسبة أعلى من الأنصار؛ هذا الى جانب الدعم من اميركا، وأوروبا، والعرب. وأفقٍ دولي مفتوح غير مغلق بأي "فيتو" مع ورقة "المحكمة الدولية" الخاصة باغتيال الحريري. وبالرغم من كل هذا جاءت النتائج مخيبة لآمال كل هذا الفريق؛ كباره في الخارج، وصغاره في الداخل!!.

لكن اللافت هو بعض الأسماء في "المجلس الانتقالي"؛ وقد هانت بما لا يتناسب و"سيطها"، وما قيل عن باعها الطويل في السياسة. ذلك لأن الخبرة السياسية لا يمكن ان تكون منقطعة عن التاريخ؛ هذا في المبدأ. اما في حالتنا العربية بالذات فإن الجزء الأكبر من الحاضر هو من تراكم الإستحقاقات المؤجلة التي ورثناها من الماضي. وقد نورثها ـ مع هذه الوتيرة ـ الى المستقبل بشكل براميل من البارود تجلس فوقها أجيالنا القادمة.

هل يعقل في مقام "الثورة!" أن تغيب عن المشتغلين بها!!، وقد خطفتها لعبة الامم. هل يعقل أن تغيب عنهم ذكرياتنا المرة خلال وبعد الثورة العربية الكبرى. ها هي الأحداث بتواريخها تنوب عن أي كلام...

ـ الإنكليز يبذلون الوعود لمساعدة الشريف حسين ليصبح "خليفة" على العرب مقابل مساعدتهم بالانقضاض على القوات التركية من جانبها الشرقي، والجنوب الشرقي.

ـ الشريف حسين يبرُّ بوعده معلناً الثورة في حزيران/ يونيو 1916 لتبدأ المعارك في جدة.

ـ عند سقوط مكة في تموز/ يوليو 1916 كان قد مضى شهران على ابرام اتفاقية سايكس ـ بيكو السرية لتقسيم بلاد العرب التي وُعِدَ بمُلكِها الشريف حسين بين بريطانيا وفرنسا!!!.

ـ تموز/ يوليو 1917 سقوط ميناء العقبة. فيما اللورد روتشيلد يقطع شوطاً بعيداً مع بريطانيا في مسألة الوطن القومي اليهودي في فلسطين!.
ـ عند دخول الأمير فيصل ـ (ملك سوريا فيما بعد)ـ الى دمشق على رأس قواته في تشرين الأول/ اكتوبر 1918، كان قد مضى بالتمام عشرة أشهر على تقديم وعد بلفور وبيع فلسطين للصهاينة. 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917. (كان الدم لم يجف بعد!!).

لعل وجه المقاربة بين الماضي والحاضر هي المسألة الشرقية في جوهرها بصرف النظر عن عنوانها الآن، وعنوانها قبل قرن تقريباً.

لقد كان اقتسام تركة "الرجل المريض" مثار تجاذب القوى العظمى على مدى مئة سنة حتى حان قطافها في سايكس ـ بيكو. كذلك فإن تصفية "القومية العربية" من وجهة نظر الغرب تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" مسألة تعود الى حوالى النصف قرن. المفارقة انه لم يُتح للعرب التعرف الى اسرار الصفقة عام 1916 إلا بعد ان اخذت طريقها الى التنفيذ. اما "الشرق الأوسط الجديد" فقد دشن الإعلان عنه اسحاق رابين قبل البدء فيه. لكن مندرجاته يمكن ان نستشفها الآن من الانقلاب النوعي للبطريركية المارونية في بكركي. والتي هي نبض الفاتيكان العارف بحكم نفوذه بالخفايا والأسرار!!، وما يبيّت لهذا الشرق العربي!!.

ولو ان البعض القليل من "المجلس الانتقالي" الذين يقدّمون طموحاتهم السياسية على باقي الحسابات! قد تأملوا قليلاً، لوجدوا بأنهم اضعف اللاعبين عندما باتت ثورتهم! في ملعب الامم!. انهم الأضعف ولو أقاموا المقارنة فإنهم لا يقاسون من حيث الشأن، والنفوذ، والشعبية، بالشريف حسين وأولاده ولا سيما ان هؤلاء قد استمدوا شرعيتهم آنذاك من دعوى انتسابهم للدوحة النبوية، وهي مسألة جوهرية ليقيموا فيها الحجة على حقهم في الخلافة، وهذا بالذات قد جعلهم يستقطبون عدداً كبيراً من العرب، والسوريين بشكل أخصّ، ومن كل طوائفهم بلا استثناء. ومع ذلك انتهى الأمر في ملعب الأمم الى ما انتهى إليه.

في لعبة الأمم سيجد أولئك الطامحون الآن الى المناصب في "المجلس الانتقالي" بأنهم أضعف اللاعبين بالمطلق بين لاعبيه الحقيقيين أي: الأميركيين، الأوروبيين، الروس، الصينيين، الأتراك، الإيرانيين، والنظام السوري نفسه! وهو ما زال على حاله قوياً، متماسكاً، يملك كثيراً من الأوراق، أهمها وحدة المؤسسة العسكرية والأمنية، لا يضللنا في هذا دعاوى الإعلان، وتضليل المضللين.

لقد بدا واضحاً للأميركيين وحلفائهم الأطلسيين بأن معارضة الخارج السوري غير مؤهلة لأنها لا تملك رصيداً حقيقياً في الداخل. ومع ذلك فقد جرى تكتيلهم خلف واجهة: "المجلس الانتقالي". فيما العمل جارٍ على تسمينهم!!. ليس وحسب كجزء من الحرب النفسية على القيادة السورية. بل وأيضاً للمقايضة عليهم ـ احتمالاً!ـ في شوط الانسحاب بتسوية ما!. إذ لا خلاف ان الجزء الأهم مما تشهده سوريا هو فصل في مسعى بناء "الشرق الأوسط الجديد"!.. ولكن ترى أي شرق أوسط؟!.. هذا هو السؤال بعد صمود النظام السوري مدعوماً بحليفه الإيراني، والفيتو الروسي ـ الصيني. والبقية آتية من مصر التي أخذت تتفلت من القبضة الأميركية.

(*) كاتب من لبنان
2011-10-08