ارشيف من :آراء وتحليلات

لبنان في مواجهات واختبارات جادة والأشهر المقبلة حاسمة في ما ستؤول اليه الأمور

لبنان في مواجهات واختبارات جادة والأشهر المقبلة حاسمة في ما ستؤول اليه الأمور
مصطفى الحاج علي
تتجمع في فضاء المشهد السياسي الداخلي مجموعة من الوقائع والأحداث والتطورات والاستحقاقات، تشير الى ولوج لبنان مرحلة من الاختبارات السياسية القوية سواء لمكوّنات القوى التي تتألف منها الحكومة الحالية، أم لعلاقات ولمسارات الأزمة المفتوحة مع قوى المعارضة الحالية.

أول هذه الاختبارات وأقربها الى العيان يتمثل بالموقف الواجب اتخاذه من ملفين أساسيين: الأول هو الملف المتصل بالحركات المطلبية داخل دائرتي القطاع الخاص والعام، والذي يستوعب مجمل الحركات النقابية لا سيما العمالية منها والتعليمية، والثاني هو الملف الذي يتناول الموازنة العامة لعام 2012.

وللملف وجوه عدة، إلا أن أبرزها التالي:

أولاً: هو مرآة للواقع الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي بات عرضة لاهتزاز عميق جراء تآكل القدرة على تحمل كلفة المعيشة، وأعباء الحياة، وتآكل البنية الخدماتية على أكثر من صعيد لا سيما تلك المتصلة بالتقديمات الاجتماعية من طبابة وتعليم وسواهما.

ثانياً: هذا التردي العام في منظومة الأمن الاجتماعي ليس ابن ساعته، ولا تتحمل الحكومة الحالية مسؤولية مباشرة عنه، إلا أنها، ولا شك، لا تستطيع الا التعامل معه، ما يضعها في مواجهة مباشرة مع هذه الأزمة المستفحلة، وما يضعها في موقع المسؤولية المباشرة لا سيما على صعيد ايجاد الحلول المطلوبة منها.

ثالثاً: ان الحكومة الحالية هي في موضع اختبار دائم لجهة تقديم نموذج مختلف في أسلوب الحكم عن كل الحكومات السابقة، لا سيما قواها الوطنية الألصق بقضايا الناس، ما يجعل من الكيفية التي ستتعامل من خلالها مع الحركات المطلبية معلماً أساسياً يميزها عن التجارب السابقة.

رابعاً: تعوّدنا من الأقلية الحالية ان تمارس طبعها الاستغلالي بمناسبة ومن دون مناسبة، وهي بالتالي لن تفوّت هذه الفرصة للاصطياد في المياه العكرة بالرغم من ان سياساتها النيوليبرالية المتوحشة، وإنصاتاتها الثابتة للوائح أوامر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإهمالها المتزامن لشؤون الناس لا سيما الفقراء والكادحين منهم، هي المسؤول الأول والأساسي عما آلت اليه الأمور، ويكفي الوقوف عند طريقة تعاملهم مع خطة الكهرباء كشاهد على ذلك.

أما ملف الموازنة فله قراءاته الخاصة البارزة كما يلي:

أولاً: ان الفلسفة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي حكمت الموازنات السابقة بقيت هي هي تقريباً، مع ان المطلوب هو اجراء اعادة نظر عميقة لهذه الفلسفة للتأسيس لمسار اقتصادي ومالي واجتماعي مختلف.

ثانياً: ان الموازنة المنشورة لم تكن الا نسخة غير منقحة وغير مزيدة للموازنة التي كانت تنوي وزيرة المال السابقة رفعها الى مجلس الوزراء، بل أكثر من ذلك هي استرجعت بنوداً كان قد تم اسقاطها في موازنة 2010 المرفوعة الى المجلس النيابي، كما إنها لم تتضمن أخذاً بآراء لجنة المال والموازنة النيابية.

والأخطر هنا، هو ما تضمنته من رفع للضرائب التي تطال المستهلك ولا تطال أصحاب الأرباح الكبيرة على أكثر من صعيد، ما يعني عملياً إحالة ما قُدّم الى القطاعات العمالية الى ما يشبه الصفر، حيث يتم الاعطاء بيد والأخذ بيد.

ثالثاً: لم تتضمن الموازنة ما يشير إلى أنها بصدد استراتيجية تتصدى للكلفة المعيشية المرتفعة، ولتحسين التقديمات الاجتماعية من طبابة وتعليم وسواهما، وفي وضع سياسة تحفيزية للانتاج من المجالات الصناعية والزراعية وغيرها بما يسهم في التخفيف من حدة البطالة... الخ.

رابعاً: حرص وزير المال على إقحام بند تمويل المحكمة في الموازنة بالرغم من إدراكه ان هذا البند هو إشكالي وخلافي بامتياز.

وهذا ما يدخلنا الى الملف الثالث الشائك والخاص بملف تمويل المحكمة، الذي يشهد تناولاً اعلامياً وسياسياً بارزاً، وفق التالي:

أولاً: يحرص فريق الأقلية على مقاربة هذا الملف بوصفه إحدى أوراقه الأساسية التي يمكن الرهان عليها لتفجير الحكومة، من خلال محاصرة رئيس الحكومة بمواقف ضاغطة خصوصاً في بيئته السياسية والمذهبية، ومن خلال التأكيد على التناقض في المواقف داخل ائتلاف الحكومة من هذا الملف.

ثانياً: يحرص رئيس الحكومة ـ ومعه كل حلف التمويل ـ على تأكيد ـ بمناسبة وبدون مناسبة ـ التزامه تمويل المحكمة، في رسالة واضحة الدلالة والأبعاد سواء باتجاه الداخل، أم باتجاه الخارج.

وهو في هذا كله يرفع من سقف الرهان الى حده الأقصى: المحكمة أو الحكومة، استناداً الى قراءة ضمنية ـ ربما ـ لديه بأن المعنيين بعدم تمويل المحكمة والرافضين لهذا التمويل ليس من مصلحتهم في هذه المرحلة الإطاحة بالحكومة، ما سيضطرهم في النهاية الى التسليم بضرورة امرار موضوع التمويل، وإن مقابل اثمان معينة. وفي هذا الإطار، فإن هناك من يرى ان الابطاء في عجلة التعيينات ورفض احداث اي تغييرات اساسية في بعض المراكز الحساسة التي ما زالت محسوبة على فريق الأقلية، اضافة الى تبريد تحريك ملف شهود الزور، مردها ليس فقط الى حسابات خاصة، وانما الى حسابات تتصل بملف المحكمة أساساً، ما يعني العمل على مقاربة هذه الملفات من ضمن سلة واحدة.

وثمة من يرى حساباً آخر مفاده أن سقوط موضوع التمويل هو في نظر واشنطن وكل المعنيين بالمحكمة سيعني حتماً سقوط أول خط دفاع أو أول حلقة أساسية تربط لبنان بملف المحكمة، وهو بالتالي خطوة في مسار سيكتمل في آذار/ مارس المقبل حيث المعركة الحاسمة مع المحكمة من خلال إما رفض التجديد للبروتوكول الناظم لعلاقة لبنان بالمحكمة، وإما من خلال اجراء تعديلات جذرية عليه. وبيت القصيد هناـ بالنسبة لواشنطن، ان سقوط المحكمة سيعني سقوط آخر ورقة بيدها وبيد أدواتها العاملة في لبنان، ما سيعني وضعها في حالة من اللاتوازن المطلق، وسيترتب على ذلك تعديل اضافي في موازين القوى لغير مصلحتها ومصلحة حلفائها في لبنان والمنطقة، وهذا ما لا يناسب حلف التمويل والمحكمة معاً، لأن من نتائجه تقلص الموقع والدور.

من هنا، تحاول واشنطن ان ترفد حلف التمويل بكل الذخيرة اللازمة لشن حملة تهويل وضغوط تؤدي في النهاية ـ في نظرها ـ إلى إبقاء التمويل ومن ثم المحكمة، كحالة ربط نزاع، وكوسيلة لإبقاء الصراع مفتوحاً من دون أي إمكان لحسمه لمصلحة طرف دون آخر، وذلك ربطاً بمجريات الأمور في المنطقة عموماً، وفي سوريا تحديداً.

لا شك، في أنه الاختبار الأصعب خصوصاً لرئيس الحكومة الذي وضع نفسه فيه، وذهب اليه بنفسه، من خلال مواقفه المتكررة والمعلنة من دون ان يكون هناك ضرورة فعلية لذلك.

ويبقى السؤال، هل التزامات حلف التمويل والمحكمة الدولية ستتقدم على التزامات الحفاظ على الاستقرار السياسي وكل موجباته الأخرى، والذي توفره الحكومة الحالية؟ وهل المعادلة القادمة هي فعلياً: الحكومة في مقابل المحكمة، أم أن الأمور ليست بهذه الحدّية؟ الأيام المقبلة بل الشهور المقبلة ستكون مفصلية، ولعل محطة آذار/ مارس المقبلة ستكون هي الفصل بذلك، وإن كانت النهاية التي ستؤول اليها مسألة التمويل ستشكل مؤشراً على ما سيحدث في آذار.


2011-10-10