ارشيف من :آراء وتحليلات

هكذا تواجه إيران تحديات ما بعد الثورات العربية؟

هكذا تواجه إيران تحديات ما بعد الثورات العربية؟
طهران ـ عبد الحسين شبيب

لا تقع ايران، الجمهورية الاسلامية، في صلب الأحداث التي تجري في الشرق الأوسط فحسب، بل هي أيضا أحد أبرز صانعيها، وفي الوقت نفسه أحد أبرز الأسباب التي تجعل واشنطن لا تغفو على حرير قوّتها العظمى المتآكلة. لا يحتاج المسؤولون الايرانيون الى من يشرح لهم خلفيات ما يجري في العالم اليوم وعلى تخوم قوتهم المتمددة الأطراف، فهم يعرفون ان اسم بلدهم لا يغادر ذهن أي مسؤول أميركي أو اسرائيلي أو أوروبي للحظة، وهم في مكان تمركز العقل السياسي الغربي كنقطة فاصلة بين عالمين: واحد ينتصر وتتبلور معالمه يوما بعد آخر، ومعروف الموقع والهوية، وآخر يذوي ويضم النظم العربية المتهاوية التي اشتغل الغرب عقودا طويلة في اقامتها، ومدها بأسباب الحياة وغذاها من لحم الشعوب المستضعفة، التي لا يمكن ان تنسى ان نظامين في تونس ومصر قادهما زين العابدين بن علي وحسني مبارك هما في التوصيف العلمي "خسارة استراتيجية" للولايات المتحدة وشركائها وأدواتها في محور "الاعتدال".

تعرف ايران أن الاميركيين تحديداً يحسبون خسائرهم جيداً وان كانوا لا يصرحون بها، ويعرفون أيضا أرباح خصومهم جيداً، وتحديداً ايران وأصدقاءها، وإن كانوا يتحاشون الافصاح عنها، لذا في علم السياسة ليس المطلوب ان تكون دولة مثل ايران مكتفية بتحليل ما يجري، كما يفعل البعض، في حين ان المطلوب منها ان تكون في صلب القرارات التنفيذية والخطوات التطبيقية خصوصا عندما يتبين ان كل الجهد الاميركي والغربي والاسرائيلي وبعض العربي منصبّ على منع أن تكون ايران الاسلامية الرابح الأول مما يجري في المنطقة من ثورات يعرف العقل السياسي الغربي الباطني انها تقع في صلب النمو السياسي الاسلامي وان حاولت بعض الجهات أن تعطي هذه الثورات عناوين اخرى متصلة بقضايا محض محلية وذات تعريف يتصل فقط باحتياجات اقتصادية واجتماعية وحرية ومشاركة سياسية وجرعة ديمقراطية كانت دائما دراسات غربية عديدة صادرة عن مراكز ابحاث مرموقة تحذر من افادة قوى اسلامية منها.

لكن وحيث ان الواقعة وقعت فان سياسة الاختباء وراء الأصابع لا تعود تنفع في عالم يغير نفسه بسرعة، وإحدى أبرز أدوات تغيير نفسه هي وسائل الاعلام، سواء التلفزيونية التي تتحرك باتجاه واحد من المرسل الى المتلقي، أو أدوات الاعلام التفاعلية التي تفيد من خيوط الشبكة العنكبوتية في تبادل الرسائل بين أكثر من طرف، وبالتالي تبادل المعلومات والمعرفة في اتجاهات مختلفة، وبالتالي لا يمكن لاي عملية التفاف على ثورتي شعبي تونس ومصر أن تعيد الأمور الى الوراء، ولو كانت المحاولات دؤوبة ومستمرة، وفي لحظة الانعطافة المستمرة في الشرق الأوسط، فان الوعي بحقيقة وخلفية ما يجري كفيل باحباط الخطط الأميركية الانقلابية أو بتعبير ملطف المحاولات " الاستيعابية" لتداعيات التحولات الكبرى في الشرق الاوسط.

وعليه جاهرت ايران وكان لديها من الشجاعة والذكاء ان تبادر الى عقد مؤتمر دولي خاص هو الأول من نوعه حمل اسم "الصحوة الاسلامية"، وجمعت فيه مئات الشخصيات السياسية والفكرية من مستويات رسمية وخاصة ومن جنسيات متعددة وبلغات مختلفة ومذاهب متنوعة، استضافتهم في ثلاثة أيام لمناقشة عدة موضوعات ملحة تتعلق بالصحوة الاسلامية، وهو إن صح التعبير الاسم الإيراني للثورات العربية، التي يقف التيار الاسلامي في صلبها، وكان أبرز العناوين ومحور النقاش هو المخاطر التي تواجه هذه الصحوة، أو بتعبير أدق المخاطر التي تواجه الثورات العربية. وقد كان هذا المؤتمر خطوة اولى عقدت في منتصف شهر ايلول الماضي، تلاه في الاسبوع التالي الاجتماع الدوري الخامس لاتحاد الاذاعات والتلفزيونات الاسلامية في طهران، حيث جمع نخبا اعلامية اسلامية ايضا من جنسيات واتجاهات مختلفة، وكان دور الاعلام الاسلامي في مواكبة الصحوة الاسلامية ومتطلباتها ابرز الموضوعات المناقشة. ثم في الاسبوع الذي تلاه استضافت طهران المؤتمر الخامس لدعم الانتفاضة الفلسطينية، وجمع قيادات مقاومة للاحتلالين الاميركي والاسرائيلي واطرافا تجمعها فلسطين، التي يفترض بعد ان تنفض الشعوب العربية عنها غبار الخطاب الداخلي ان تنتفض للعنوان الذي مس العدو امتنا بكرامتها فيه.

واللافت في هذا الحراك الايراني الذي بدأ بالملتقى الدولي الاول للصحوة الاسلامية، ان الفضل فيه يعود الى الإمام السيد علي الخامنئي، حيث تمثل ذلك بالدور المحوري الذي لعبه مستشاره للشؤون الدولية الدكتور علي اكبر ولايتي الذي انيطت به امانة المؤتمر، ثم بمشاركة الإمام شخصيا في مؤتمري الصحوة ودعم الانتفاضة حيث القى في كليهما خطابين مهمين، وهي من المرات النادرة التي يشارك فيها سماحته بمؤتمرين متتاليين يفصل بينهما اسبوع واحد، وقد شكل ذلك تعبيرا عن طبيعة التحديات التي تواجه المنطقة وتستدعي تحركا ايرانيا فاعلا وصانعا للاحداث.

هذا في الشكل اما في المضمون فقد كان السيد الخامنئي واضحا في خطابه امام ممثلي مختلف القوى والشخصيات المعنيين بالصحوة الاسلامية، حيث وضع امامهم تجربة الثورة الاسلامية في ايران كنموذج للافادة منه في مقاربة عملية التغيير الشامل التي يفترض ان تقودها الشعوب في اماكن تحركها المعبر عن ارادتها الحقيقية ورغبتها الصادقة في وضع حد لسنوات طوال من القهر. وهنا كان خطاب سماحته مركزا في المخاطر التي تواجه الثورات العربية والتي شخصها بالدرجة الاولى، اي الخطر الاول، وهو "ثقة النخب السياسية بالعدو والانخداع بوعوده". وهنا استعاد سماحته من وقائع الثورة الايرانية قضية السفارة الاميركية وسيطرة الطلاب عليها اواخر العام 1979 والوثائق التي عثر عليها، وفيها من المؤامرات والدسائس المثبتة ما كان كافيا للشعب الايراني لكي يمشي وراء إمامه الخميني (قدس سره) في خطابه الدائم الذي كان يشير فيه الى الخطر الاميركي الموازي لخطر نظام الشاه، والذي لا تكتمل الثورة الايرانية الا بالتخلص منهما وليس من احدهما. طبعا هناك خطر آخر مواز هو "الشعور والظن بان سقوط الحاكم العميل والفاسد والديكتاتور هو نهاية الطريق، لان ذلك سوف يبعث على الارتخاء وراحة البال والغرق في نشوة النصر"، في حين ان الامور ليست على هذا النحو المبسط، ذلك ان العنصر الخارجي الذي قرر الدخول على خط عملية التغيير والمجاهرة الوقحة بتبنيها ـ الولايات المتحدة واوروبا ـ لم يكتف بركوب الموجة، بل انه يحاول تطبيق استراتيجيته السابقة والحالية باقامة فجوة عميقة بين ايران الاسلامية والعالم العربي الاسلامي الثوري، تارة على خلفيات عرقية ( فرس ـ عرب)، وطورا على خلفيات مذهبية (سنة ـ شيعة)، وهو امر شرع العديدون في التنظير له، ومنهم من بشّر بقرب فكاك بعض القوى الاسلامية المقاومة مثل حماس عن ايران بسبب ما يسمونه انتفاء الحاجة بعد توافر "حاضنات اسلامية سنية" لهذه المقاومة، وبسبب الفجوة المذهبية، وما الى ذلك من تنظيرات تستهدف المس بصورة الصحوة الاسلامية العربية، رغم انه في جوهرها عمل تكاملي وليس انفصاليا عن بقية المكونات الاسلامية، ايرانية وغير ايرانية.

وهنا جاء مؤتمر دعم الانتفاضة بتوقيته وبطبيعة الحضور المشارك والشخصيات التي تحدثت فيه، وبينهم بطبيعة الحال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، ليكمل المسار الايراني التصاعدي في بناء خط وحدوي يقطع الطريق على الخطوط الانفصالية التي تحاول واشنطن رسمها، ولو على صفحات وشاشات وسائل الاعلام، علما ان مخاطر التفرقة المذهبية واثارة النعرات الطائفية والعرقية وغيرها كانت من المخاطر التي لفت السيد الخامنئي الى وجوب التيقظ منها ومن مسببيها، لكيلا ينفذ اعداء الصحوة من الاماكن التي كانت سببا في طردهم من الساحة الاسلامية.

ما تقدم يشير الى ان طهران تواكب ما يجري في المنطقة من باب المعني الاول الذي يحاول البعض استهدافه والايحاء بأن مآل الثورات العربية ليست في مصلحتها، كما يحاولون رسم عداوات وافتراقات افتراضية هي في الاساس علامة حصرية بالسياسة الاميركية والاوروبية التي ستأتي قريبا الساعة التي تؤكد ان هؤلاء المستعمرين القدامى هم الخاسرون الحصريون من حراك الشعوب العربية الذين لديهم صحوة اسلامية تؤكد طهران وتصر على انها مكملة لصحوتها الاسلامية قبل ثلاثة عقود، وتترجم طهران سياستها الخارجية في ممارسة مزيد من الحض على تذويب الاختلافات سياسية كانت ام فكرية، والتشديد في غير مناسبة على البعد الوحدوي المشتق من روح الاسلام، وليس كمجرد سلوك سياسي تمليه حاجات الزمان والمكان، ما يجهض استراتيجية دق الاسافين بين التيارات والمجموعات الاسلامية.

وليس ادل على ذلك من كون قائد الثورة الاسلامية السيد الخامنئي كان اول من ترجم من العربية الى الفارسية كتاب "المستقبل لهذا الدين" لمؤلفه المفكر الاسلامي البارز سيد قطب، كأطروحة اسلامية للتغيير في حينه، وجهد جهاز السافاك آنذاك لمصادرة الكتاب وزج بمترجمه السيد الخامنئي بالسجن، وهذا ان دل على شيء، فانه يدل على ان مشارب الفكر السياسي الاسلامي الثوري واحدة مهما حاول المغرضون النفخ في ابواق الفتن.

2011-10-12