ارشيف من :آراء وتحليلات

الربيع العربي"... "الممانعة" في عالم يتغير

الربيع العربي"... "الممانعة" في عالم يتغير

"لا يمكن ان يكون لحجة منطقية تأثير على شخص لا يريد أن يتبنى اسلوباً منطقياً" ـ كارل بوبر
لؤي توفيق حسن (*)
بعض (المثقفين) المشككين بـ "الربيع العربي"، هم مثل بعض انواع الطيور التي إذا ما عاشت عمرها في القفص ثم أطلقتها، عادت الى قفصها لأنها لم تألف الحياة في الطبيعة بين الأشجار، والحقول. نحن هنا نعني فقط المثقفين من ذوي النوايا الحسنة. أما (مثقفو) السلطان فإن المشكلة عندهم ليست التباساً معرفياً، بالرغم من أن النتيجة واحدة، حيث كلاهما خارج الزمن.


ان سقوط جدار برلين، ثم انهيار "الإمبراطورية السوفياتية" هما من حيث ( النتائج) في المنظور الكلاسيكي للتاريخ لا يقلان أهميةً عن تداعيات سقوط روما، ولا عن تداعيات سقوط القسطنطينية، بوصفهما محطتين فاصلتين بين عصرين. اما بالقراءة الجدلية للتاريخ فإن ما حدث سوفياتياً كان من نتائج ثورة الإتصالات، التي اسقطت الجدار الحديدي، كما قلصت المسافات، تماماً كما أدى في السابق إختراع المطبعة الى ثورة معرفية اوجدت عصر النهضة الأوروبية، وبعدها الى الآلة ومنها الى الثورة الفرنسية، ثم الثورة الصناعية التي أدت الى بلورة فكر اشتراكي مادي أفضى الى الثورة البلشفية.

ان من لا يرى الحراك الشعبي الممتد من المنطقة العربية حتى "وول ستريت" بوصفه جزءاً لا يتجزأ من سياق الحركة العامة للتاريخ، هو ملتبس. الحراك الشعبي في المنطقة العربية جاء تعبيراً عن سقوط النظام العربي وهو بإختصار نتاج ثلاث اشكاليات: أزمة الحرية والعدالة، في مواجهة ثورة المعرفة، أزمة التنمية، في مواجهة تحديات العصر، وأزمة المصير، في مواجهة الهجمة الصهيونية ـ الأمريكية.

أما "وول ستريت" فهي بلا شك مقدمة لأزمة النظام الرأسمالي الذي ما عاد قادراً على حل أزماته بالحرب التي شكلت يوماً "أعلى مراحل الرأسمالية" ـ بحسب لينين ـ وباتت الآن أكثر الحلول كلفة. إذ في دولة متخلفة مثل افغانستان عجزت الآلة الأميركية العسكرية عن تحقيق أي شيء، إلا المزيد من الخسائر في الأرواح، والمال. ثم جاء الدرس الأقسى من العراق الذي تحول الى مقبرة للجنود الأميركيين. أما في لبنان فإن حرب صيف 2006 كانت إيذاناً بفشل الذراع العسكرية للغرب في المنطقة، حيث استطاعت عصبة من الرجال المؤمنين، والمدربين جيداً، هزيمة أقوى جيش في المنطقة خلال 33 يوماً. كما إنها عرّت عجز النظام العربي!.

العالم يتغير. ربما بعضنا على الأقل لم يدرك هذه الحقيقة. وحده الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يدرك بعمق أزمة نظامه الرأسمالي في مواجهة التحولات، الأمر الذي عبرت عنه هيلاري كلينتون في إحدى الندوات بالقول: "يجب ان نكون قادرين على المنافسة... لا بد من ان نقدم حججاً قوية لمواجهة الدور القيادي للولايات المتحدة". أما هذا الدور القيادي ـ في العقل الأميركي ـ فهو يتأتى من (مغامرة) التخلي عن رؤوس الأنظمة المأزومة مقابل اختراق الحراك الشعبي وتكييفه. وبهذا الصدد تقول السيدة كلينتون: "علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لإظهار أن القوة الأميركية هي قوة خير..."!. وانطلاقاً من هذا التصور عارضت مع وزير الحرب أي خفض في ميزانية الدبلوماسية والحرب، مبررة ذلك بقولها: "انها فرصة... لكني غير واثقة من أننا سنتمكن من انتهازها إذا لم تتوفر الموارد لاستثمارها". وهي تعني بـ "الفرصة" هنا الثورات التي تشهدها الساحة العربية.

بعض العرب من (اصدقاء) امريكا انخرطوا في لعبتها على أمل النجاة معتقدين ان بوسعهم ركوب "موجة الربيع العربي"، او إبعادها عنهم. إنها عبثية الفكر الضحل الذي يعتقد بأنه يمكن الدخول "بتسوية" مع الزمن بغية إيقاف عقارب ساعته!.

ماذا عن سوريا؟!.

تبدو سوريا حالة منفردة، ومثالاً بارزاً على لعبة سرقة "جواد الحراك الشعبي". هذا الحراك الذي كان في الحالة السورية تحديداً ينبغي أن يظل بين اصحابه! قناعةً منا بأن هذه الحالة شهدت ـ وخلافاً لغيرها ـ مكونات قوية تكمن في امرين: عدم ابتعاد النظام عن القضايا المعيشية الى حد ما وقياساً بغيره، وعدم التفريط بأية ورقة من أوراق القوة التي تحولت بها سوريا من ملعب الى لاعب مهم في السياسة الإقليمية. لكن هذين بالتأكيد لا يعفيان من استحقاقات حركة التطور. ومن هنا دخلت أمريكا بخبث لكي تركب "جواد الحراك الشعبي" في سوريا.

بين الاستحقاق والسرقة؛ التبس الأمر على بعض النخب التي تحوّل حرصها على المكون الإيجابي في الحالة السورية: "الممانعة" ـ كما اصُطلِحَ عليه ـ الى اندفاعة دوغمائية بحيث بات الحرص على هذه الممانعة يقتضي وضع الكل من ثورات، رموز، ومعارضين، في سلة واحدة.

وبهذه الدوغمائية فإن العديد من النخب التقدمية العربية يساهم من خلال تقريعه بالثورات أو رموزها في دفع جماهيره إلى خانة امريكا فيما تسعى هذه الأخيرة أساساً لاستقطابهم في مسعاها التجميلي الذي عبرت عنه كلينتون: "... إظهار ان القوة الأميركية هي قوة خير"!.

ما لم يتطابق "الحراك الشعبي" مع "الممانعة" في محصلة واحدة فثمة خطأ ما. لكن أن لا تواكب الممانعة الحراك الشعبي؛ فثمة خطر ما. فيما كلاهما جزء من "حركة التحرر العربي". هنا المفارقة، والإشكالية الكبرى.

(*) كاتب من لبنان


2011-10-17