ارشيف من :آراء وتحليلات

الألغام الموقوتة تحت الخط 36!

الألغام الموقوتة تحت الخط 36!
بغداد ـ عادل الجبوري

الاحداث التي شهدها قضاء خانقين التابع لمحافظة ديالى مؤخراً، تشير بما لا يقبل الشك إلى أن الأزمات بين الحكومة الاتحادية في بغداد والحكومة المحلية في أربيل أكبر من أن تحلها وتحتويها اجتماعات ووساطات، وتشير بما لا يحتمل النقاش الى ان ملف المناطق المتنازع عليها أعقد بكثير مما يفترض ويتصور البعض، وان المادة 140 من الدستور العراقي لا تمثل الحل بقدر ما هي أشبه بعقّار مسكن يخفف الآلام لكنه لا يقضي على الداء!

الأعلام الكردية التي امر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بإنزالها من على المباني الحكومية وغير الحكومية والشوارع في مدينة خانقين لم ترفع حديثا، وقرار المالكي هذا لم يكن الأول من نوعه. والجديد في الامر، أنه لم يكن بمعزل عن التصعيد الأخير بين بغداد وأربيل على خلفية اتهامات الحكومة الكردية للمالكي بالتنصل من التزاماته التي تعهد بها قبيل منحه الثقة لتشكيل الحكومة نهاية العام الماضي، واتهامات الأخير لها بتجاوز الدستور.

الأزمة بين بغداد وأربيل هي في الواقع جزء من أزمة عراقية أكبر، عنوانها الواسع العريض "غياب الثقة"، بيد ان إيقاعها أخذ يزداد يوما بعد آخر خلال الأسابيع القلائل الماضية، بعد التصعيد بشأن عقود النفط الكردية مع الشركات الأجنبية، وتواجد قوات البيشمركة الكردية في مناطق خارج حدود الاقليم، والضغوط للإسراع بتطبيق المادة 140 من الدستور المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، وأخيرا قرار رئيس الوزراء بإنزال العلم الكردي من المباني في قضاء خانقين، ناهيك عما يسميه البعض بالتمدد الكردي غير المقبول في محافظتي كركوك والموصل، وتحديداً في المناطق المتنازع عليها، والتي ما زالت موضع خلاف بين الفرقاء، وكذلك الدعوات المتكررة لاقامة الدولة الكردية المستقلة.

ولعل خانقين تشكل نموذجاً مصغراً يشير بوضوح الى عمق وحساسية مشكلة المناطق المتنازع عليها، فالاكراد يصرون على أنها كردية وينبغي أن تكون ضمن الاقليم، وهذا ما عبر عنه رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني خلال زيارته المفاجئة للقضاء الشهر الماضي، اذ اكد على كردية خانقين والمناطق التابعة له في محافظة ديالى.

وقد اثارت زيارة البارزاني حفيظة عدة أطراف في حينه، لتزيد أزمة إنزال العلم الطين بلة، وتفتح الباب واسعاً أمام الخيارات السيئة، وقد وصفت اوساط عربية "خطوة عدم رفع العلم العراقي واستبداله بعلم الإقليم في قضاء خانقين بمحافظة ديالى، بالإضافة الى وجود تحركات كردية باتجاه قضاء تلكيف بمحافظة نينوى وبعض المناطق المحاذية لاقليم كردستان، بأنها خطوة استباقية وموجهة ومرسومة من قبل قوات البيشمركة لتلك المناطق مع قرب موعد الانسحاب الامريكي نهاية العام الجاري".

وتضيف تلك الاوساط قائلة إن "جميع الملفات العالقة سواء بين العرب او الكرد او ما بين حكومتي المركز والاقليم من الممكن حلها بالحوار ووفق الدستور والقانون والعيش على أساس عراق موحد لا يفرق بين ابناء البلد الواحد". لكن النبرة كانت أكثرة حدة لدى البعض الآخر حينما أطلق تهديدات برفع اعلام الدول التي لها مشاكل مع الاكراد كتركيا وايران وسوريا، واعتبر التوجهات الكردية بأنها تنطوي على استفزاز كبير وواضح.

ومن زاوية دستورية يرى خبراء قانونيون "ان المادة 140 من الدستور لا تسمح للاقليم برفع علمه في المناطق المتنازع عليها الى حين الاستفتاء على مصيرها ومطالبة ابنائها بأن يكونوا ضمن الاقليم، عندها يحق رفع علم كردستان"، مضيفين، "ان الاكراد موجودون في مناطق كثيرة من البلاد واذا تم رفع العلم الكردي في كل منطقة يقطنونها فإن العراق سيصبح جميعه كرديا".

وفي واقع الأمر إن أزمة المناطق المتنازع عليها تعود الى بداية عقد التسعينيات وربما أبعد من ذلك، وبعد الإطاحة بنظام صدام أخذت أبعاداً أخرى ارتباطاً بالمتغيرات الحاصلة. والولايات المتحدة الاميركية لم تكن بعيدة عن ايجاد ـ او تضخيم ـ الازمة بتوفيرها الحماية البرية والجوية للمناطق الواقعة فوق خط العرض 36 في اطار ما أطلق عليه عملية توفير الراحة (provide comfort) بعد حرب الخليج الثانية.

هذا التحديد ادخل مناطق ليست كردية ضمن حدود المنطقة الأمنة للاكراد، وأبقى مناطق يعتبرها الاكراد كردية الهوية خارج المنطقة، وهذا ما أوجد احتقانات وتشنجات ما كان لها أن تطفو على السطح إلا بمقدار قليل قبل سقوط النظام، لكن بعد سقوطه في ربيع عام 2003 راح كل طرف من الأطراف يتحرك سريعا وفق امكانياته وقدراته لفرض الأمر الواقع، وبدا في معظم الاحيان ان الاكراد يمثلون الطرف الأقوى لأن تجربة الادارة الذاتية خلال عقد التسعينيات اتاحت لهم بناء مؤسسات عسكرية وأمنية وسياسية والحصول على موارد مالية ثابتة وغير ثابتة.

ولأنه لم يكن ممكنا لأي طرف ضمن المعادلات والحقائق الجديدة أن يفرض خياراته على الآخرين فإنه من الطبيعي جدا أن تتجه الأمور الى مزيد من التصعيد والتأزم والاحتقان يوما بعد آخر، بحيث باتت المناطق المتنازع عليها بمثابة قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، وتزداد خطورة وحساسية الأوضاع اذا عرفنا ان تلك المناطق تمتد على مساحات جغرافية واسعة وتشمل عدة محافظات هي أربيل والسليمانية والموصل وكركوك وديالى وتكريت وواسط وحتى ميسان، حيث توجد خرائط للدولة الكردية المستقلة المفترضة تضم مناطق من محافظة ميسان الواقعة جنوب شرق العراق، وكذلك فإن اغلب تلك المناطق تحتوي على ثروات وموارد طبيعية مهمة أبرزها النفط، فضلا عن كونها تعد حلقات وصل لا على الصعيد الداخلي فحسب، وانما على الصعيد الخارجي أيضا، والعامل الآخر هو أن التركيبة الديمغرافية لمعظم المناطق المتنازع عليها تتداخل طائفيا ومذهبيا ودينيا الى جانب التداخل القومي.

واذا كانت المادة 140 من الدستور العراقي تمثل إطاراً نظرياً مناسباً لمعالجة أزمة المناطق المتنازع عليها ووفق تراتبية منطقية (التطبيع ـ الاحصاء ـ الاستفتاء)، فإن ترجمتها وتطبيقها على أرض الواقع يدخلان الجميع في متاهات شائكة ومعقدة يصعب الخروج منها بنتائج عملية واضحة على المدى المنظور في أدنى التقادير.

2011-10-21