ارشيف من :آراء وتحليلات
الأزمة عالمية... والحلول خارج إطار "المعقول"!
عقيل الشيخ حسين
بعد فوزه في الانتخابات التي جرت داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي لتعيين مرشح الحزب للمعركة الرئاسية التي ستجري في ربيع العام القادم، أدلى فرنسوا هولند بتصريحات عديدة تحدث فيها عن التغيير والأمل بإعادة فرنسا إلى سابق عزها وازدهارها. لذا، كان خصومه من اليمين الحاكم محقين عندما وصفوا تصريحاته بأنها غير صالحة لهذا الزمن لسبب بسيط هو خلوها من أية إشارة إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم وخصوصاً بالبلدان " المتقدمة" وفي جملتها فرنسا، وهي الأزمة التي لا يستبعد أن تقود خلال الأيام القليلة القادمة إلى انهيارات وركود لا سابق له، مع ما يستتبعه ذلك من اضطراب اجتماعي لا يعرف مداه.
وإذا كان اليمين الفرنسي الحاكم محقاً في نقده للبرنامج الانتخابي الغائم الذي يخوض الاشتراكيون الانتخابات على أساسه، فإن ذلك لا يعني أنهم يقدّمون، أو سيكون بمقدورهم أن يقدّموا، برنامجاً أفضل. فالأزمة بلغت حداً من العمق بحيث باتت تتجاوز المتعارف، وبالتالي لم يعد الخروج منها ممكناً من خلال الحلول التقليدية.
وتأتي التظاهرات غير المسبوقة التي عمت مختلف بلدان أوروبا خلال الشهور الماضية، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة قبل أن تتجدد خلال عطلة الأسبوع الماضي في أوروبا وفي بلدان شرق أوستراليا ونيوزيلندا وإفريقيا الجنوبية، لتدلل على عالمية الأزمة من جهة، وعلى وحدة الشعارات والمطالب التي يرفعها المتظاهرون، والتي تتمحور حول إدانة الرأسمالية المفترسة بما هي مسؤولة ـ من خلال السطوة التي تمارسها المؤسسات المالية والشركات العابرة للقارات ـ عن إفقار ثلثي البشرية وتركيز ما يوازي 85 بالمئة من الثروة العالمية في أيدي 15 بالمئة من سكان الكوكب.
أما الأكثرية المتبقية، ومنها سكان البلدان المعروفة بأنها غنية، فتعاني من البطالة وصعوبة العيش وانسداد آفاق المستقبل. ولعل ظاهرة البحث عن الطعام في سلال المهملات، أو التنقيب في جبال النفايات المتكاثرة عن مواد قابلة لإعادة التدوير، أو انتشار ظواهر التسول أو الإقبال الشديد على مطاعم الجمعيات الخيرية والدينية التي تقدم وجبات مجانية، يشهد على المدى الذي بلغه سوء الأحوال المعيشية لدى شرائح واسعة من بني البشر.
لقد فقد هؤلاء كل أمل بالخروج من الأزمة عن طريق المعزوفات المكرورة عن معصومية السوق والثقافة المالية والترشيد والشفافية والمحاسبة والتنمية المستدامة وما إلى ذلك من مقولات لم تحل دون تفجر الأزمة وتفاقمها.
كما باتوا يعلمون أن الاقتصاد العالمي الموشك على الانهيار لم يعد يتعيش إلا على فقاعات هنا وهناك لا تلبث أن تنفجر مخلفة وراءها كوارث من نوع أزمة الرهون العقارية، وإفلاسات كبريات المصارف العالمية بالجملة، وتراكم المديونيات السيادية التي تسمح لهذه الشركة أو تلك، أو لهذا المصرف أو ذاك بابتلاع سلطة الدول ومن ورائها الشعوب التي لم تعد تملك من الحقوق غير الحق بالانتخاب، وهو حق يتلبسه الباطل بدليل أن الناس يعيشون في أميركا مثلاً بين مطرقة الجمهوريين وسندان الديموقراطيين. فهم يناضلون من أجل إسقاط هذا الحزب الذي سبق لهم أن ناضلوا من أجل حمله إلى الحكم في عملية تشتق كل شرعيتها من بدعة تداول السلطة بين فريقين كلاهما أسير المافيات وجماعات الضغط نفسها.
لم يبقَ أمامهم غير النزول إلى الشوارع ورفع الصوت بالاستياء، أو التعبير عن الغضب واليأس عبر اللجوء إلى العنف. منهم من يكسر واجهات المتاجر أو يحرق السيارات أو يقيم المتاريس بانتظار قدوم الشرطة التي تعمل فيهم تنكيلاً واعتقالاً وقتلاً من دون أن تعود عليهم الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير بأي نفع.
منهم من يعود إلى ماركس فيخرجه في حلة جديدة: "يا مهمشي العالم اتحدوا!"، ومنهم من يستلهم ما يسمى بالربيع العربي، وكلهم يشتم السوق والمصارف والاحتكارات ومجتمع الاستهلاك، وكثيرون بينهم يرددون أطروحات البيئيين ويعلقون الأمل... على الطاقة الشمسية أو على طاقة بديلة عن النفط يستخرجها العلم من مياه البحر، أو يعثر عليها في كوكب تائه في مجرة من المجرات، من دون أن ينتبهوا إلى كون هذه الطروحات هي في صميم ما يلجأ إليه القيمون على الأوضاع السائدة من أجل تعميم وتعميق عملية التخدير التي يطبقونها على العالم.
ولتجسيد الآمال، ليس بين المحتجين أحد ـ شأن اليمين واليسار في فرنسا ـ يعرف ما الذي ينبغي عمله غير الحشد والتظاهر والاعتصام. قد يتوصلون إلى تنظيم مظاهرات واعتصامات أكبر من المليونية. وقد يسقطون الأنظمة ويستلمون السلطة.
لكنهم لا يستلمون بذلك غير المسؤولية عن إدارة وضع لم يعد قابلاً للإدارة. فالأزمة ليست مالية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية وحسب. إنها كل ذلك، وأكثر من ذلك أزمة حضارة بشرية لا تحلحلها الحلول الإصلاحية حتى ولو أقامت عدالة اجتماعية على مستوى توزيع الثروات.
إن مجتمعات تقوم على أنشطة المدن، ومدناً يسكن في كل منها ملايين بل عشرات الملايين من الأفراد، هي مجتمعات لم يعد بإمكانها إلا أن تكون استهلاكية وسائرة في طريق الهلاك. أليس من الصحيح أن سكان المدن ( وسكان ما كان يسمى بالأرياف يعيشون الآن على طريقة أهل المدن) لا ينتجون شيئاً بالمعنى الفعلي للإنتاج الأساسي؟
ربما يكون المطلوب قبل كل شيء هو إعادة الاعتبار للإنتاج وخصوصاً للعمل الذي بات الجميع يتحايلون عليه لكثرة ما فتحت الحضارة الصناعية أمام الناس أبواباً للاسترزاق أولها الشطارة وليس آخرها فنون التحايل والفساد.
بعد فوزه في الانتخابات التي جرت داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي لتعيين مرشح الحزب للمعركة الرئاسية التي ستجري في ربيع العام القادم، أدلى فرنسوا هولند بتصريحات عديدة تحدث فيها عن التغيير والأمل بإعادة فرنسا إلى سابق عزها وازدهارها. لذا، كان خصومه من اليمين الحاكم محقين عندما وصفوا تصريحاته بأنها غير صالحة لهذا الزمن لسبب بسيط هو خلوها من أية إشارة إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم وخصوصاً بالبلدان " المتقدمة" وفي جملتها فرنسا، وهي الأزمة التي لا يستبعد أن تقود خلال الأيام القليلة القادمة إلى انهيارات وركود لا سابق له، مع ما يستتبعه ذلك من اضطراب اجتماعي لا يعرف مداه.
وإذا كان اليمين الفرنسي الحاكم محقاً في نقده للبرنامج الانتخابي الغائم الذي يخوض الاشتراكيون الانتخابات على أساسه، فإن ذلك لا يعني أنهم يقدّمون، أو سيكون بمقدورهم أن يقدّموا، برنامجاً أفضل. فالأزمة بلغت حداً من العمق بحيث باتت تتجاوز المتعارف، وبالتالي لم يعد الخروج منها ممكناً من خلال الحلول التقليدية.
وتأتي التظاهرات غير المسبوقة التي عمت مختلف بلدان أوروبا خلال الشهور الماضية، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة قبل أن تتجدد خلال عطلة الأسبوع الماضي في أوروبا وفي بلدان شرق أوستراليا ونيوزيلندا وإفريقيا الجنوبية، لتدلل على عالمية الأزمة من جهة، وعلى وحدة الشعارات والمطالب التي يرفعها المتظاهرون، والتي تتمحور حول إدانة الرأسمالية المفترسة بما هي مسؤولة ـ من خلال السطوة التي تمارسها المؤسسات المالية والشركات العابرة للقارات ـ عن إفقار ثلثي البشرية وتركيز ما يوازي 85 بالمئة من الثروة العالمية في أيدي 15 بالمئة من سكان الكوكب.
أما الأكثرية المتبقية، ومنها سكان البلدان المعروفة بأنها غنية، فتعاني من البطالة وصعوبة العيش وانسداد آفاق المستقبل. ولعل ظاهرة البحث عن الطعام في سلال المهملات، أو التنقيب في جبال النفايات المتكاثرة عن مواد قابلة لإعادة التدوير، أو انتشار ظواهر التسول أو الإقبال الشديد على مطاعم الجمعيات الخيرية والدينية التي تقدم وجبات مجانية، يشهد على المدى الذي بلغه سوء الأحوال المعيشية لدى شرائح واسعة من بني البشر.
لقد فقد هؤلاء كل أمل بالخروج من الأزمة عن طريق المعزوفات المكرورة عن معصومية السوق والثقافة المالية والترشيد والشفافية والمحاسبة والتنمية المستدامة وما إلى ذلك من مقولات لم تحل دون تفجر الأزمة وتفاقمها.
كما باتوا يعلمون أن الاقتصاد العالمي الموشك على الانهيار لم يعد يتعيش إلا على فقاعات هنا وهناك لا تلبث أن تنفجر مخلفة وراءها كوارث من نوع أزمة الرهون العقارية، وإفلاسات كبريات المصارف العالمية بالجملة، وتراكم المديونيات السيادية التي تسمح لهذه الشركة أو تلك، أو لهذا المصرف أو ذاك بابتلاع سلطة الدول ومن ورائها الشعوب التي لم تعد تملك من الحقوق غير الحق بالانتخاب، وهو حق يتلبسه الباطل بدليل أن الناس يعيشون في أميركا مثلاً بين مطرقة الجمهوريين وسندان الديموقراطيين. فهم يناضلون من أجل إسقاط هذا الحزب الذي سبق لهم أن ناضلوا من أجل حمله إلى الحكم في عملية تشتق كل شرعيتها من بدعة تداول السلطة بين فريقين كلاهما أسير المافيات وجماعات الضغط نفسها.
لم يبقَ أمامهم غير النزول إلى الشوارع ورفع الصوت بالاستياء، أو التعبير عن الغضب واليأس عبر اللجوء إلى العنف. منهم من يكسر واجهات المتاجر أو يحرق السيارات أو يقيم المتاريس بانتظار قدوم الشرطة التي تعمل فيهم تنكيلاً واعتقالاً وقتلاً من دون أن تعود عليهم الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير بأي نفع.
منهم من يعود إلى ماركس فيخرجه في حلة جديدة: "يا مهمشي العالم اتحدوا!"، ومنهم من يستلهم ما يسمى بالربيع العربي، وكلهم يشتم السوق والمصارف والاحتكارات ومجتمع الاستهلاك، وكثيرون بينهم يرددون أطروحات البيئيين ويعلقون الأمل... على الطاقة الشمسية أو على طاقة بديلة عن النفط يستخرجها العلم من مياه البحر، أو يعثر عليها في كوكب تائه في مجرة من المجرات، من دون أن ينتبهوا إلى كون هذه الطروحات هي في صميم ما يلجأ إليه القيمون على الأوضاع السائدة من أجل تعميم وتعميق عملية التخدير التي يطبقونها على العالم.
ولتجسيد الآمال، ليس بين المحتجين أحد ـ شأن اليمين واليسار في فرنسا ـ يعرف ما الذي ينبغي عمله غير الحشد والتظاهر والاعتصام. قد يتوصلون إلى تنظيم مظاهرات واعتصامات أكبر من المليونية. وقد يسقطون الأنظمة ويستلمون السلطة.
لكنهم لا يستلمون بذلك غير المسؤولية عن إدارة وضع لم يعد قابلاً للإدارة. فالأزمة ليست مالية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية وحسب. إنها كل ذلك، وأكثر من ذلك أزمة حضارة بشرية لا تحلحلها الحلول الإصلاحية حتى ولو أقامت عدالة اجتماعية على مستوى توزيع الثروات.
إن مجتمعات تقوم على أنشطة المدن، ومدناً يسكن في كل منها ملايين بل عشرات الملايين من الأفراد، هي مجتمعات لم يعد بإمكانها إلا أن تكون استهلاكية وسائرة في طريق الهلاك. أليس من الصحيح أن سكان المدن ( وسكان ما كان يسمى بالأرياف يعيشون الآن على طريقة أهل المدن) لا ينتجون شيئاً بالمعنى الفعلي للإنتاج الأساسي؟
ربما يكون المطلوب قبل كل شيء هو إعادة الاعتبار للإنتاج وخصوصاً للعمل الذي بات الجميع يتحايلون عليه لكثرة ما فتحت الحضارة الصناعية أمام الناس أبواباً للاسترزاق أولها الشطارة وليس آخرها فنون التحايل والفساد.