ارشيف من :آراء وتحليلات

نهاية القذافي بداية المرحلة الأصعب لليبيا: أية صورة للمنطقة اليوم؟

نهاية القذافي بداية المرحلة الأصعب لليبيا: أية صورة للمنطقة اليوم؟

مصطفى الحاج علي
تبدو المنطقة محكومة لمسارات مختلفة من التطورات والأحداث المتلاحقة، إلا أنها بحكم تقاربها الزمني، وتشابهها العام في المنطلقات والأهداف، واجتماعها في نفس الأفق التاريخي والحضاري، وخضوعها لنفس القوى الفاعلة والمؤثرة في مجرياتها، يصبح من الصعب التفكيك فيما بينها، كما يفرض وجود تأثير متبادل فيما بينها، خصوصاً بفعل عامل المحاكاة أو العدو، أو بفعل التأثير النفسي والمعنوي. واذا شئنا اليوم أن نرسم صورة حالية للمنطقة، لبدت وفق التالي:

أولاً: صحيح أن تصفية الزعيم الليبي يمكن عدها انجازاً مهماً لجهة ازالة أحد الموانع الرئيسية التي ما زالت تحول دون أن تأخذ مجريات الأمور الحالية نهايتها المفترضة، إلا أن حقيقة الأمر أيضاً أن هذا النجاح لا يقاس بحجم الاستحقاقات البالغة الصعوبة التي تنتظر الراغبين في احداث التغيير المنشود. وهذه الاستحقاقات لا تتعلق فقط بالصعوبات الخاصة بتركيبة المجتمع الليبي القبلية والعشائرية، ولا بطبيعة الائتلاف الذي يجمع قوى التغيير، وهو ائتلاف يضم أطيافاً من قوى متنوعة ليبرالية وعلمانية وقومية واسلامية، وان كانت هناك ارجحية فاعلة على الأرض للتيارات السلفية، ولا أيضاً بما تفتقده ليبيا من مقومات الدولة العصرية وأجهزتها الادارية المختلفة، حيث اختصر القذافي الدولة بشخصه وشخص عائلته، وإنما ـ وهو أخطر الاستحقاقات الداهمة ـ تتمثل فيما تتعرض له ليبيا من ضغوط واطماع خارجية وتحديداً غربية، تستهدف اعادة صياغة العلاقات مع الحكم الجديد، ما يعني حكماً دخولها طرفاً مباشراً في صياغة توازناته، بما يكفل ايجاد وضعية مستقرة وموثوقة في معادلة أمن البحر المتوسط، وتقاسم خيرات ليبيا من خلال وضع اليد على كعكة اعادة الاعمار، ومشروعات التنمية، وعوائد الثروة النفطية. وهذا كله ليست الولايات المتحدة بعيدة عنه. ثم ان ليبيا المتاخمة لمصر والتي هي جزء من منظومة عرب شمال افريقيا، يعتبر الإمساك بها شرطاً ضرورياً لابقاء مصر محاصرة من هذه الجهة، ولضمان التوازنات في تلك المنطقة، التي تنحكم تاريخياً لقسمة سايكس ـ بيكو المشهورة. ومن المعروف ان الجزائر وتونس والمغرب كانت من حصة فرنسا، وهذا ما يفسر بدوره الدور الرئيسي الذي لعبته في الأزمة الليبية، والتي تحاول لعبه حالياً في الأزمة التونسية.

الخلاصة هنا، أن ليبيا أمامها مشوار طويل ومعقد، ولا يبدو حتى الآن غير أنها نجحت في التخلص من طاغية، من دون بيان معالم خروج الى أفق جديد مختلف.

ثانياً: ان الانتفاضة في اليمن ما زالت عالقة حتى الآن في معادلة توازن قوى بين المؤيدين والمعارضين للنظام، وهي لا تبدو أنها ستبلغ خواتيمها في المدى المنظور بالرغم من أنها تعتبر استحقاقاً اميركياً ـ سعودياً بامتياز وربما السبب الرئيسي لهذا الأمر يعود أيضاً الى أن التوازنات المشار اليها هي امتداد لتوازنات قبلية معقدة، كما إنه ليس واضحاً للمعنيين حتى الآن وعلى نحو واثق الطبيعة التي سيكون عليها النظام الجديد، خاصة في ضوء التوجس من خطورة التأثيرات المحتملة، سياسياً وأمنياً، على الأوضاع في الجزيرة العربية عموماً، وعلى السعودية تحديداً.

ثالثاً: بالنسبة لمصر، فإن مجموع عناصر الصورة لا يطمئن أيضاً، فهناك تشرذم وانقسام واضح في قوى الانتفاضة وتحالفاتها، وهناك من همه كيف يرتب موقعاً له ودوراً في حصة السلطة الجديدة، وهناك من تأخذه اغراءات الزعامة والنجومية الاعلامية، وهناك من يريد التسريع في اتجاه تحقيق كامل انجازات الثورة في مقابل من يعمل على ابطاء حركتها وتجزئة اهدافها، وفي مقابل من يعمل أيضاً على حرفها عن مسيرتها، او الاكتفاء بمجرد عمليات تجميل لما كان قائماً.

وخلف هذا كله تدخل الولايات المتحدة الاميركية مشفوعة بالعلاقات الوثيقة التي تربطها بالمؤسسة العسكرية التي أوكل اليها مهمة ادارة المرحلة الانتقالية، وضبط بقاء مصر في النقطة نفسها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لا سيما فيما يتعلق بالاتفاقيات التي تربطها بالكيان الاسرائيلي وتحديداً اتفاقيات كامب ـ ديفيد، هذا الى جانب دعمها أيضاً لشبكة قوى النظام السابق لا سيما الماسكة منها بمفاصل الاقتصاد المصري تحت ذريعة ضرورة المحافظة على النزعة الرأسمالية لهذا الاقتصاد.

كل هذا أفضى الى نوع من الترهل في قوة اندفاعة الانتفاضة، والى تشتت قواها، والى احداث استقطاب حاد فيما بينها، من دون أن يعني ذلك عدم وجود مؤشرات ايجابية قوية عبرت عن نفسها مؤخراً خصوصاً بعملية اقتحام السفارة الاسرائيلية، وباعلان الاستعداد للنزول الى الشارع كلما اقتضى الأمر، وفي ذلك رسائل تحذير قوية لمن يعنيه الأمر، خصوصاً أنه لا مجال بعد اليوم الى اعادة الأمور الى الوراء، وهذا ما اقلق حسابات كثيرين، وأثار هواجس فعلية لدى الولايات المتحدة، والكيان الاسرائيلي.

رابعاً: بالنسبة للسعودية فهي تعاني اليوم من إرباك استراتيجي، وتضعضع في البنية الاستراتيجية لموقعها الجيوبوليتيكي، وهي تبدو محاصرة بقوس من الأزمات الخطيرة، والتي لا يمكن للرياض الا أن تعدها أزمات داخلية تبدأ باليمن وتمر بداخل السعودية نفسها، ولا تنتهي في البحرين، هذا الى جانب الانتقال الذي حدث في موقع العراق ودوره الوظيفي من دولة حاجز، وأداة للاستخدام وقت الحاجة في وجه ايران وسوريا الى دولة وصل بين الجمهورية الاسلامية الايرانية ومنطقة الخليج بكل ما يعنيه هذا الوصل من تداعيات استراتيجية. يضاف الى هذا كله خسارة الرياض لحليفها الاستراتيجي حسني مبارك، ودخول مصر في وضعية معلقة حتى اشعار آخر.

خامساً: أما سوريا التي رمى الغرب كله، مدعوماً بالمنظومة الخليجية، إلى احداث تغيير فيها، لمصلحة اعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة، بل وعليه أيضاً، لمصلحة التحالف الموضوعي الذي يجمع هذا التحالف مع الكيان الاسرائيلي في مقابل محور المقاومة والممانعة، فإن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح حتى لأسباب كثيرة باتت معروفة، ما يعني بدوره ان الأهداف الكبيرة المطلوب تحقيقها ما زالت بعيدة عن متناول اليد، وان نجحت حتى الآن في ارباك هذا المحور وإشغاله، حتى لا يسارع الى ملء الفراغات الاستراتيجية الكبيرة في المنطقة الناتجة عن تعثر المشروع الاميركي وأزماته المتنوعة كما نجحت في وضع الحواجز أمامه لتضعف من قدرته على التكامل والتفاعل مع المتغيرات الجديدة في المنطقة.

خلاصة هذه المشاهد الأساسية لدول مفصلية في المنطقة، تدل على أننا ما زلنا في مرحلة انتقالية سيالة سمتها الرئيسية التجاذب والاشتباك الدولي والاقليمي، وهي مرحلة دون تبلور توازناتها النهائية وقت ليس بالقليل، الأمر الذي يفرض على الأطراف السياسية في لبنان الخوض في لعبة تقطيع الوقت، وتأجيل الاستحقاقات، وانتظار ما ستؤول اليه الأمور قبل حسم المواقف والمواقع والأدوار، ولعل الشهور القادمة من شأنها ان تكون حاسمة لتبيان الكثير من الأمور، ففي العام المقبل موعد مصر مع الشروع في تأسيس دستور جديد بعد تجاوز استحقاق الانتخابات خلال الشهر المقبل، وكذلك تونس، أيضاً، هناك موعد سوريا مع الكثير من الاصلاحات، وحسم الأمور خصوصاً في المسألة الأمنية اضافة الى ما يتعلق بالوجود الاميركي في العراق والاشتباك الايراني ـ الاميركي حوله.



2011-10-21