ارشيف من :آراء وتحليلات
تأملات على طريق ليبيا جديدة
لؤي توفيق حسن (*)
"في الثورة كما في الرواية، إن أصعب مرحلة هي الخاتمة" ـ (اليكس دو توكوفيل)
"الزعيم!" معمر القذافي يختبىء في مجرور للنفايات!، وعندما أدرك قرب نهايته استجدى قتلته: "حرام عليكم يا شباب"!!. هكذا هم الطغاة جبناء لا يموتون في خندقهم كما ينبغي للقادة أن يفعلوا أو كما يليق بالرجال. هذا أول درس يجب ان ينتبه إليه البعض، ممن استلبهم الطغاة. نرى مثاله النافر في صفحات الفايسبوك التي استبدل أصحابها صورهم بصور هذا الطاغية أو ذاك... يا له من انحراف في المزاج، والقيم، والثقافة!.
سقط القذافي إذاً سقوطه المذل هذا. لا يوازي عاره إلا طريقة قتله وقد حملت قدراً من التشفي لا تتناسب وفروسية الصحراء العربية، ولا قيم الإسلام، فضلاً عن شرعة حقوق الإنسان. لكن من يدقق في التفاصيل بدءاً من القاء القبض على القذافي ثم نقله، ثم سقوطه بين ايدي الثوار، يستنتج أن هذا لم يكن صدفة، بل لعلها الصدفة المدروسة! ليلقى مصيره المحتوم. ربما تهيأ للمعنيين في المجلس الانتقالي انه الطريق الأنسب "ليتفرق دمه" بين الجموع فلا يحمل (وزره) تجاه قبيلته، فضلاً عن انصاره. يتقاطع هذا مع رغبة الناتو في تصفية القذافي الذي أصبح (صندوقاً أسود) يحتوي على اسرار اتصالاته وتعاونه مع الغرب، حيث الجميع يعرف أنه قد اسدى له ولـ"إسرائيل" خدمات جزيلة في تزويدهم بأسماء المقاومين الفلسطينيين وغيرهم ممن تعاونوا معه او التجأوا إليه. وهذه ثاني أمثولة ـ فوق أمثلة مشابهة ـ لمن يعتقد بأن في التعاون مع الغرب منجاة.
لكن اللافت هو الأمثولة الثانية؛ إذ بالرغم من تقاطع المصالح ـ حالياً ـ بين المجلس الانتقالي الليبي والأطلسي فإن هذا الأخير ذهب تحت مُسَمى "حقوق الإنسان" ليؤسس ملف "قضية قتل القذافي" لتظل المسألة كجرح مفتوح، وإلى ما يترك الباب نصف مشرع لإمكانية طلب قبيلته الثأر له، فضلاً عن أنصاره؛ والتي يمكن إذكاؤها لتصبح تداعياتها من ثأر وثأر معاكس مدخلاً لفتة داخلية!. انه "ملف" احتياطي من ضمن سيناريو قد يستعين به الغرب متى شعر بأن اللعبة ستخرج من يديه. وهو سيناريو من غير الصعب استحضاره في مجتمع تتنازعه القبلية والجهوية. ولعل ما يرجح هذا الاعتقاد هو ترك "سيف الإسلام" حراً طليقاً!! ترى كيف جرى ذلك، بعد ان أُعلن عن اعتقاله؟. هناك مساحة ضبابية في هذا الأمر تسمح بالشك بأن المذكور قد جرى تسهيل هروبه ليكون طرفاً (ناشطاً!) في لعبة الفتنة الآنفة الذكر، او في أحسن الأحوال (فزَّاعة) لابتزاز السلطة الليبية، تماماً كما كان شأن الأميركيين مع الخليجيين في ترك صدام حسين سنينَ ـ بعد اخراجه من الكويت ـ ليكون مصدر تهديد (نفسي) لدول الخليج يستفيد منه الأميركيون في ابتزازهم على أكثر من صعيد، كان منها تعزيز وجودهم العسكري تحت مُسمّى: "امن الخليج".
ان الغرب ـ كعادته ـ يتحضر لكل الاحتمالات، ومنها حالة الاستغناء عن "خدماته!" من قبل أية سلطة ليبية في المستقبل. لا شك بأن هذه المسألة غير افتراضية إذا ما نظرنا الى ثقافة هؤلاء الثوار التي تستمد جذورها من خلفية اسلامية، ومن تراث وطني رافض للأجنبي، حافل بسجل تاريخي من البطولات في مقارعته. وبالتالي فإن امكانية أن ينقلب سلاح الثوار يوماً ما الى صدور الناتو هاجس يعمل له هذا الأخير الحسابات سلفاً.
سقوط القذافي بات خلف الليبيين الآن. أما "الجهاد الأكبر" الذي ينتظرهم فهو بناء الدولة التي قضى عليها "اللانظام الليبي" خلال ما يزيد على ثلاثة عقود، الأمر الذي قد تعرقله دول الناتو حيث من مصلحتها إيجاد حالة فوضى "تستثمرها" لنهب ثروات ليبيا من دون حسيب او رقيب من سلطة مركزية.
ليس هنالك من تكوين راسخ تاريخياً للدولة في ليبيا بما ينطوي عليه من تقاليد وأنماط ثابتة يسهل معها إعادة بنائها. فهذه الدولة لم تكد تشق طريقها ـ (عام 1951) ـ تحت "الشرعية الدينية"، والجهادية لآل السنوسي حتى جاء انقلاب القذافي ليطيح بها!.
في خضم هذه التحديات التي تحيط بانبعاث ليبيا جديدة فإن السبيل الوحيد لتحصين أي مسعى في بناء دولة مركزية يكون عبر ترسيخ الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب الليبي؛ وتأطيرها في مجلس من "حكماء الدولة" يأتي ترجمةً للمكون الاجتماعي للشعب الليبي، ويضم شيوخ القبائل والزعامات المحلية الى جانب ممثلين عن النخب من مثقفين، وكتّاب، وأساتذة جامعيين، بحيث يكون لهذا المجلس دور ترشيدي، مع حق الفيتو الملزم في أية خطوة من شأنها الإضرار بالسلم الاجتماعي، هذا السلم الذي أصبح الآن على (كف عفريت) بانتشار السلاح، ومعه احتمالات الثأر للقذافي من أنصاره، وما يستتبعه من ثأر معاكس، الأمر الذي يستوجب بذل مساعٍ حثيثة لإجراء مصالحة على قاعدة العفو العام عن أنصار القذافي مع افساح المجال لإمكانية نقد ذاتي للمرحلة السابقة، باستثناء من قاموا بارتكابات شنيعة يفصل فيها القضاء.
غير ان ذلك كله لا يعفي الدول العربية الاربع المجاورة لليبيا من أن تجتمع ليكون لها دور بارز في حماية الوحدة الوطنية الليبية، وذلك بالنظر لامتداد النسيج القبلي عبر حدودها المشتركة مع ليبيا؛ بالأخص مصر شرقاً، والجزائر غرباً.
سيجد القارئ أننا قلنا إنها مسؤولية "الدول العربية المجاورة لليبيا" وليس (الجامعة العربية)، فهذه الأخيرة أصبح الموقف منها مشفوعاً بدعاء أحد الحكماء: "اللهم اكفني شر أصدقائي. أما أعدائي فإني كفيلٌ بهم".
(*) كاتب من لبنان