ارشيف من :آراء وتحليلات
الأزمة... تباشير الثورة العالمية!
عقيل الشيخ حسين
"هكذا تبدأ الثورات"، قالها أحد المعلقين الذين يمكن أن يُتهموا بالتشاؤم من قبل أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بقدرة النظام الرأسمالي الإبداعية والاستثنائية على تجاوز الأزمات والخروج منها بقوة أكبر من السابق. ألم نتجاوز أزمة الثلاثينيات ونعبر منها إلى العقود الثلاثة المجيدة؟
تمكن الإجابة بأن هذا صحيح، ولكن... بأي ثمن؟ حرب عالمية ثانية ثم حرب باردة أشد تدميراً، ومن بعدها هذه الحرب العالمية الثالثة التي جاءت ساخنة هذه المرة، والتي أعلنها المحافظون الجدد الأميركيون وحلفاؤهم ليفضوا بنا إلى الوضع الراهن: الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة عام 2008 والتي اتسع مداها لتصبح أزمة عالمية.
وهي ليست مالية واقتصادية وحسب، بل أيضاً اجتماعية وسياسية: حرب عالمية رابعة على نمط الحربين الأولى والثانية اللتين شكلت أوروبا مسرحهما الرئيسي، وبالتلازم معهما ثورات شعبية أكثر شبهاً بالانتفاضات المنفلتة، نظراً لغياب الإيديولوجيات والأحزاب السياسية القادرة على حشد الجماهير وتأطيرها.
إنذارات بذلك ظهرت قبل سنوات في انتفاضات الضواحي الفرنسية، ثم في فترة أحدث عهداً، في المدن البريطانية والإيطالية، من دون أن ننسى اليونان وحالة الغليان التي تعيشها منذ عامين.
هنالك قتلى سقطوا في هذه الأحداث على الأرض الأوروبية بأيدي رجال أمن أوروبيين. ويمكننا منذ الآن أن نسمع أناساً يتحدثون، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة، وفيما يتجاوز منطقة اليورو، وكامل القارة الأوروبية... يتحدثون عن اللجوء الحتمي إلى السلاح.
اللجوء إلى السلاح هو، على كل حال، أمر تقليدي في الولايات المتحدة منذ نشأتها. وهناك آلاف يسقطون قتلى كل سنة في معارك ضارية بين الجماعات المافيوية وغيرها في هذا البلد العاجز عن تقنين شراء الأسلحة وحملها، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة، وكذلك عن تقنين حقول التدريب على الأنشطة الحربية.
أن يقوم مراهق باستخدام رشاش حربي يقتل به عدداً كبيراً من رفاقه في أحد صفوف التدريس أو في ملعب إحدى المدارس، أو أن يقوم معتوه بإطلاق النار على المارة في الشارع أو المتسوقين في أحد المراكز التجارية الكبرى، أو أن يقوم نوع غريب من المتنبئين بإقناع الآلاف من أتباعه بإحراق أنفسهم وهم أحياء، أو أن تقوم أم بقتل أبنائها وتقطيعهم وحفظ لحمهم في الثلاجة... كل ذلك بات اعتيادياً في العالم المتحضر المتمثل بأميركا الشمالية وأوروبا الغربية.
وكل ذلك يمكن له منطقياً أن يتعزز، وأن يغتني بعودة المكبوتات، وأن يتجاوز الحدود في ظروف الأزمة التي يتخبط فيها عالم ما بعد الحداثة، وفي ظروف انسداد آفاق الحلول.
فالولايات المتحدة والصين تطلبان بإلحاح من منطقة اليورو أن تسرع في إعادة التوازن إلى اقتصاداتها قبل قمة العشرين التي ستنعقد في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، أي بعد أسبوع من الزمن. وبدلاً من الإسراع، فإن خوف زعماء منطقة اليورو من أن يجدوا أنفسهم في قمتهم التي يعقدونها الأحد، يدفعهم إلى الانتظار لعل وعسى أن يتوصلوا إلى اتفاق في قمتهم التي يعقدونها يوم الأربعاء. التأخر يظل بالنسبة لهم أفضل من الفشل المعجل.
وإذا ما جرى كل شيء على ما يرام، فإن النجاح سيتوقف في قمة الأربعاء على توافق وجهات النظر بين قاطرتي الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، بخصوص الصندوق الأوروبي للاستقرار المالي الذي أنشئ من أجل مساعدة الدول الأوروبية على دفع فوائد ديونها السيادية.
لكن شيئاً لن يجري على ما يرام إذا حدث بعد الاتفاق الألماني ـ الفرنسي أن أظهر زعماء مجموعة العشرين تمنعاً في تلبية رغبة الأوروبيين في أن يرفع هؤلاء من مستوى استهلاكهم للخدمات والسلع الأوروبية، لأن ذلك هو ما يراهن عليه الأوروبيون من أجل النهوض بالاقتصاد الأوروبي والعالمي. إلى متى؟
إن شرائح متزايدة من الناس في أنحاء العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا، تغوص الآن في البؤس إلى درجة أنهم لم يعد لديهم ما يفقدونه، وإلى درجة أن النزول إلى الشارع قد أصبح بالنسبة لهم الوسيلة الوحيدة للرد على الأزمة.
هنالك عاطلون عن العمل أكثر مما يجب، وتسريحات من العمل أكثر مما يجب، وعطل إجبارية غير مدفوعة الأجر أكثر مما يجب، ومطرودون من بيوتهم بسبب تراكم الديون عليهم أكثر مما يجب، وأناس لا مسكن لديهم أكثر مما يجب... إنهم يخرجون بأعداد متزايدة في التظاهرات وينصبون الخيام في الساحات العامة في أعداد متزايدة من مدن العالم.
الصدامات والاشتباكات مع رجال الأمن لم يعد تجنبها ممكناً. اعتقالات مكثفة، والقتلى والجرحى بدأوا يسقطون. وهكذا ينزلق الوضع نحو الأسوأ، وبدرجة أقل نحو الأفضل.
وعلى افتراض أن الثورات اندلعت وتمكنت من إسقاط الأنظمة الحاكمة، يمكن عندها وضع حد للفساد ولجشع البنوك والشركات العابرة للقارات. ويمكن عندها اعتماد سياسات عادلة وسليمة في جميع الميادين. لكن كل ذلك لا يزيل الشك بتوافر الإمكانات الفعلية لبناء عالم أفضل إذا ما اقتصر الأمر على معالجة الأزمة الاقتصادية وحدها.
فالأزمة هي حقاً وصدقاً أزمة حضارة مغامرة، بروميثية وانتحارية. والعمل الحقيقي من أجل تغيير العالم ما يزال ضائعاً في اللامفكَّر فيه حتى عند من يعتقدون أن بإمكانهم قيادة البشرية نحو خلاصها بالوسائل الكلاسيكية.
التخلي عن كل ما حققته الحضارة الصناعية من "مكتسبات، أو العثور على وسيلة للاحتماء من المصائب التي يمكن أن تنزل على البشر من "صندوق باندورا"، وليس هنالك خيار ثالث.