ارشيف من :آراء وتحليلات

الانتخابات التونسية: الدلالات والأبعاد

الانتخابات التونسية: الدلالات والأبعاد

مصطفى الحاج علي
تزدحم المنطقة اليوم بالتطورات والأحداث ذات المغزى القوي والدلالات الأقوى، إلا أنه وسط هذا الازدحام برز الحدث الانتخابي في تونس كحالة تستدعي وقفة تأمل خاصة، ذلك أن تونس هي من أطلق شرارة الانتفاضات العربية، وهي من أسس لمرحلة باتت توصف بأنها "ربيع العرب". وهي اليوم من يدشن أولى الخطوات المؤسسة لعبور الأوضاع من مرحلة الى مرحلة سياسية مختلفة بالكلية سواء لجهة شكل النظام المعتمد، أم لجهة التوازنات التي سيحتكم اليها داخلياً وفي علاقاته مع الخارج، ما يسمح بدوره ببلورة الموقع والدور الجديدين لتونس في مجال علاقاتها العربية ـ الافريقية، أو في مجال علاقاتها العربية العامة.

واذا كان من الخطأ القاتل التعميم هنا استناداً الى الخصوصيات التي تحكم كل دولة نجحت فيها الانتفاضة، لا سيما لجهة وزنها الاقليمي والدولي في معادلات التوازن الجيو ـ سياسي العام في المنطقة، ولجهة خصوصياتها الاجتماعية أيضاً، فإنه ليس صحيحاً القول أيضاً إن الحدث التونسي لا يشكل مؤشراً على المسارات العامة التي ستتخذها الانتفاضات لا سيما في الأماكن التي نجحت فيها.
وفي هذا الإطار، يمكن استخلاص النتائج الرئيسية التالية:

أولاً: ان المشاركة الكبيرة في الانتخابات التي راوحت ما بين الـ 80% والـ 90% من مجموع من يحق لهم الانتخاب، وهو مجموع يتجاوز السبعة ملايين، يؤكد مجموعة أمور بالغة الأهمية:
أ ـ حرص الشعب التونسي على الحضور في الساحة، وعلى تثبيت موقعه ودوره في المرحلة الجديدة من تاريخه.
ب ـ ثمة شغف عميق لدى الشعب التونسي لممارسة حياة سياسية فعلية، تعكس تطلعه نحو الحرية، والتحرر من ربقة الاستبداد، والاقصاء والتهميش.
ج ـ تأكيد الشعب التونسي التزامه بانتفاضته، وبالتالي تجديد الالتزام بها، انطلاقاً من ممارسته لحقه بالانتخاب.
د ـ برهن الشعب التونسي عن جدارة ديموقراطية سواء في ممارسة حق الاختيار، أم في طريقة تقبل قواه السياسية للفوز او للخسارة.

ثانياً: ان اشراك المهاجرين التونسيين في حق الانتخاب جاء معبراً بدوره عن أمور بالغة الأهمية، هي:
أ ـ التأكيد على ربط التوانسة بوطنهم وبهويتهم الوطنية، وبالتالي، تجاوز آليات التذويب في أتون الغربنة والأمركة وسواها، وهذا بدوره فرصة لإعادة تأكيد الهوية الوطنية ببعدها الاسلامي حتى في الخارج.
ب ـ ان مستقبل تونس السياسي هو مسؤولية كل التوانسة، وليس فقط من هو مقيم على أرض تونس وجغرافيتها.

ثالثاً: كشفت نتائج الانتخابات عن مجموعة اتجاهات رئيسية لكل منها معناه الخاص، ودلالته الخاصة، هذه الاتجاهات هي:
أ ـ فوز كبير لحركة النهضة، وهي الحركة الاسلامية المنضوية في الإطار العام لحركة الإخوان المسلمين، أو ما يعرف بالتنظيم الدولي للإخوان.
هذا الفوز الكبير شكل أول اختبار عملي لقوة ولمدى ولحجم حضور التيار الاسلامي في تونس، وربما لاحقاً في العديد من البلدان العربية. ولا شك، أن مجموعة عوامل عملت على نجاح الاسلاميين في هذا الاختبار الكبير، تبدأ بحضوره ودوره العريق تاريخياً، وبمحاكاته لنبض الناس لا سيما فيما يتصل بهويته الدينية، ولنجاحه في تحديد خطابه السياسي والثقافي بما جعله أكثر قدرة على محاكاة متطلبات شعبه، وعلى تقديم الاجابات الملائمة لأسئلة العصر على أكثر من صعيد، هذا الى جانب ردود الفعل الطبيعية والغريزية التي تشهدها كل جماعة تُهدَّد في هويتها، حيث تجعل من الارتداد والتمسك بهذه الهوية الوسيلة الأفضل للدفاع عن نفسها، وهذا ما برز على نحو جلي في الأصوات التي حصلت عليها حركة النهضة في الخارج، وهي نسبة تؤكد فشل عمليات الأوربة والأمركة، كما تؤكد حاجات هؤلاء الى تثبيت هوياتهم الجامعة في مواجهة الحملات العنيفة على الاسلام والمسلمين التي شنت في الغرب خصوصاً بعيد أحداث ايلول من العام 2001، ويضاف اليها ان حركة النهضة بزعامتها الرئيسية عاشت لفترة طويلة في الخارج ما سمح لها بالتواصل المريح والواسع مع هذه الشرائح، وفهم احتياجاتها، وصياغة الخطاب الملائم والموائم لها.
واللافت أيضاً هو نسبة النساء اللواتي انتخبن حركة النهضة، ما عكس بدوره اطمئنان المرأة التونسية لطبيعة الخطاب الأنثوي الخاص بالحركة والذي يرسم خطاً فاصلاً عن الخط السلفي، ولا يحاول أن يمس كثيراً بـ"الوضع الجيد" عموماً للمرأة التونسية في ظل النظام السابق, كما ان هذه النسبة تعكس, ولا شك، واقع الاتجاه المحافظ الذي ما زال غالباً داخل المجتمعات العربية عموماً.
ب ـ ضمور حجم الاتجاهات الليبرالية والعلمانية واليسارية، وهو ضمور يتصل عموماً بـ:
ـ التقهقر العام الذي يعاني منه اليسار عموماً دولياً وإقليمياً، وخصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وايديولوجيته الماركسية، وعجز هذا اليسار عن انتاج خطاب نقدي يمكّنه من تجاوز واقعه الحالي، والارتقاء به الى مستوى احتياجات الشعوب.
ـ إنزواء الاتجاه الليبرالي والعلماني لاعتبارات تبدأ بأدواره المشبوهة حيناً، وبوجود نوع من التماهي في اللاوعي الجماهيري بينه وبين الغرب عموماً، الذي تعاني صورته من تشوهات كبيرة لدى هذه الجماهير، يضاف الى ذلك انشداد المجتمعات عموماً الى المحافظة وقيمها لا سيما في ظل استمرار العديد من المكونات والبنى الاجتماعية وأنظمة قيمها على حالها، وكذلك عجز هذه القوى عن بلورة وصياغة خطاب مقنع للناس والجماهير.

رابعاً: ان توزع نسب الفوز والنجاح جراء اعتماد قانون النسبية مع أرجحية لافتة للاتجاه الاسلامي، لا يعني أن هذا الاتجاه سينفرد بادارة المرحلة الانتقالية، بل لا بد له من صياغة تحالفات تمكنه من عبور هذه المرحلة بنجاح.

خامساً: ان حركة النهضة ستجد نفسها منذ الآن في امتحان يومي لمواقفها وخطابها وسلوكها ولكيفية ادارتها للأمور السياسية وغيرها، وهي ستكون موضع متابعة من الجميع، الا ان امتحانها الكبير سيكون امام من منحوها ثقتهم، وامتحانها الأكبر لاحقاً سيكون في كيفية نقل تونس من موقعها القديم الى موقعها الجديد في سياستها الخارجية.
واذا كان خطاب الحركة ينحو حتى الآن منحى تطمينياً إزاء الداخل والخارج معاً، وهو منحى مفهوم، إلا أنه ليس كافياً للاجابة عن الاسئلة الأساسية التي ستجد الحركة نفسها ملزمة بالاجابة عنها لاحقاً، ولعل أبرزها: أي هوية سياسية لتونس الجديدة؟



2011-10-28