ارشيف من :ترجمات ودراسات
اخطاء تركيا الاستراتيجية
عبد الحسين شبيب
ماذا تفعل تركيا رجب طيب اردوغان بنفسها؟ واين هو وزير الخارجية احمد داوود اوغلو صاحب نظرية "صفر اخطاء" من السياسة الخارجية التي تتبعها انقرة حزب العدالة والتنمية الاسلامي؟
لفت مؤخرا تصريح للواء يحيي رحيم صفوي المستشار العسكري لقائد الثورة الاسلامية في ايران الامام السيد علي الخامنئي احصى فيه على الاقل ثلاثة اخطاء استراتيجية ترتكبها تركيا هي:
1 ـ الموافقة على اقامة الدرع الصاروخية الاطلسية على اراضيها، الموجهة بدرجة واحدة الى كل من ايران وروسيا.
2 ـ التعاون القائم بين انقرة وواشنطن والرياض وتل ابيب من أجل زعزعة الإستقرار والأمن في سوريا.
3 ـ ذهاب أردوغان الى القاهرة ليقول للمصريين ان النظام الجديد في بلدهم يجب ان يكون ليبرالياً وعلمانياً مما اثار استياء الاوساط الاسلامية في هذا البلد الذي يعتبر ان له دورا رياديا اقليميا يوازي او ينافس الدور التركي.
طبعا، ليست هذه هي الاخطاء الوحيدة، بل لعلها الابرز التي تتعلق بقضايا راهنة وملحة في المنطقة تتبع حيالها تركيا سلوكيات من شانها ان تعيدها عقودا الى الوراء، سيما انه في موازين القوى، على الاقل في قضية الدرع الصاروخي، واستعداء كل من طهران وموسكو بنشرها من دون اي حاجة دفاعية او هجومية لتركيا بها، يمثل سقطة غير محسوبة، لا يتوقع ان تعود بشيء من الفائدة على انقرة يمكن ان يقدمها لها الاميركيون او والاوروبيون.
وقد فسر كثير من المراقبين الفيتو الروسي في مجلس الامن ضد المشروع الاميركي الاوروبي التركي الذي يستهدف سوريا، (فضلا عن انه يؤكد تمسك موسكو بحليفها الاستراتيجي وتوفر له حاضنة دولية)، على انه رسالة مباشرة الى انقرة تبلغها فيه ان الدروع الصاروخي على اراضيها موجه بالدرجة الاولى ضدها، مما سينعكس على جملة ملفت تشتبك فيها القوتان الروسية والتركية، بينها ازمة اقليم ناغورني قرباخ بين آذربيجان وارمينيا، و جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة الناطقة بالتركية التي تسعى انقرة لمد نفوذها اليها الامر الذي تعتبره روسيا تهديدا لامنها القومي وتقاومه بشدة.
والسؤال المطروح هو ماذا تتوقع انقرة ان تستفيد من هذا الاداء الخارجي في قضايا شديدة الحساسية؟ فالملاحظ ان واشنطن وفريقها الغربي والعربي هم سياسيا وعسكريا واقتصاديا في وضع المأزوم في مجمل الملفات المتورطين فيها، من افغانستان الى العراق مرورا بفلسطين وصولا الى لبنان، وما بينهم من ملف مستجد اسمه الثورات العربية التي اطاحت حتى الان بحليفين اساسيين لواشنطن وتحاصر نظامين حليفين في اليمن والبحرين، فضلا عن الازمات العنيفة التي تضرب الاقتصادين الاميركي والاوروبي حالياً. في المقابل فان الاقتصادين الروسي والايراني يكادان يكونان الوحيدين في العالم الذين لم تصبهما شظايا الازمات الاقتصادية العالمية. كما انه في ميزان القضايا الدولية والاقليمية فان هذين البلدين يعتبران في مصاف الرابحين في الملفات الانفة الذكر وفي غيرها من مناطق النزاع والتوتر. فاين تكمن الحكمة في مجازفة انقرة بعلاقات لها تصنف جيدة ومتينة مع دول قوية مثل روسيا وايران لصالح علاقات خاسرة مع دول متراجعة مثل الولاويات المتحدة واوروبا واسرائيل؟
اذا اردنا ان نبدأ من المرحلة الاخيرة فان سقوط نظام معمر القذافي ورغم المساعدة المهمة التي قدمتها تركيا سياسيا ولوجستيا، فانها كانت الطرف الاسرع الذي اختفى عن واجهة الاحداث لصالح الاميركي الاوروبي، الذين سيجهدان لتقاسم الغنائم بعيدا عن انقرة، مما يكرر تجربتها الفاشلة في دعم غزو افغانستان عام 2001، وبعده غزو العراق الذي استاثرت به واشنطن قبل ان تخسره تدريجيا، ليتبين أن موطء القدم التركية في هذا البلد حصلت فقط بمساعدة ايرانية _ سورية. وتعرف انقرة اكثر من غيرها ان نظام العقوبات الدولي المفروض على ايران ارتد ايجابا لصالحها من خلال التعاملات المالية التي اقامتها البنوك التركية مع المؤسسات الايرانية المالية والاقتصادية، وهو امر ازعج واشنطن كثيراً.
وطبعا كان سلوك تركيا محل ثناء ايراني ترجم بفتح طريق العراق امامها، فعاد الأمران عليها بمنافع مالية ضخمة، وعزز من توجه انقرة نحو العالم الاسلامي اكثر فاكثر، بعد ان سدت اوروبا امامها ابواب العضوية في اتحادها الذي يبحث كل يوم عن سبل لالتقاط انفاسه الاقتصادية.
ولعل الاشارة الابرز عن سياسة الاذلال الاوروبي تجاه تركيا تمثلت بالتلاسن التركي _الفرنسي الاخير حول المجازر في ارمينيا. فرغم انخراط انقرة الكامل في ما يطلبه الاميركيون والاوروبيون منها تجاه سوريا، ورغم نشرها الدرع الصاروخي الاطلسي، فان ذلك لم يمنع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته الاخيرة لارمينيا من مطالبة تركيا بالاعتراف بارتكابها مجازر بحق الارمن، مذكرا في الوقت عينه بموقف بلاده الرافض لعضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي قائلا بالحرف ان "تركيا بلد جيد لكن ليس له مكان في الاتحاد الاوروبي".
ويفهم من ذلك ان كل التنازلات التركية لم تغير من طبيعة الاستعلاء الاوروبي في التعامل معها، لكن ملطش الغباء الاستراتيجي يكمن في ان انقرة ذهبت في عدائها تجاه نظام الرئيس بشار الاسد اكثر مما ذهب اليه الاميركيون والاوروبيون، الذي يتقنون فن البيع والشراء في السياسة ويمتهنون اسلوب رمي ادواتهم في منتصف الطريق او على قارعتها، مع الاشارة الى ان الخسائر الاستراتيجية التني جنتها انقرة من هذا السلوك العدائي تجاه دمشق تحتاج الى صفحات لاحصائها. ولا ضير من التذكير ان مؤسسة الدراما السورية لعبت دورا بارزا في مد جسور التواصل العربي التركي من خلال دبلجة المسلسلات التركية بكثافة وبطريقة جذبت اليها ملايين المشاهدين العرب ليتعرفوا في آلاف الحلقات، التافهة بالمعنى المهني، على العناصر السياحية والاقتصادية التجارية في هذا البلد، (المسلسلات هي عبارة عن عروضات سياحية وتجارية لماركات الالبسة والاقمشة والمفروشات وغيرها من السلع)، لا بل ذهبت الدراما السورية ابعد من ذلك الى محاولة تلطيف الصورة التاريخية للعثمانيين بعدما اتسمت بالعنف والبطش بابناء ملتهم من المسلمين، وليس الارمن فحسب.
واذا اردنا ان نوجز مخاطر سلوك انقرة هذا يكفي الاشارة الى انه في الحد الادنى يوجد ثلاثة مستويات من الانقسام الداخلي التركي حول الازمة السورية:
الاول ذات طابع سياسي بين حزب السلطة العدالة والتنمية واحزاب المعارضة التي لا توافق على اي من سلوكياته، وتعتبرها توريطا لانقرة في ازمة اكثر ما يمكن ان تصيب الاتراك انفسهم؛ وهو ما ترجمته زعيمة المعارضة بيرجول جولر التي تترأس حزب الشعب الجمهوري بزيارتها الاخيرة الى دمشق ولقائها القيادة السورية وحديثها عن مؤامرة يخطط لها وينفذها الغرب وتهدف الى غزو سوريا، ويتم فيها استخدام مصطلحات مثل الديقراطية والحرية، مكررة انتقادها العنيف لاداء حزب العدالة والتمنية الذي يورط تركيا في هذه الحرب.
المستوى الثاني ذات بعد طائفي، اذ ان التفسير المنطقي والمتداول على نحو علني هو ان خلفية سلوك اردوغان وفريقه تكمن في الانتصار لما يسمونه اكثرية سنية ضد اقلية علوية. هذه الحيثية المذهبية الفتنوية سيكون لها ارتدادات عميقة عى الساحة التركية حيث يشكل العلويون قوة شعبية واسعة في البلد تجعل منهم الشريحة الثانية بعد المسلمين السنة.
المستوى الثالث ذات بعد قومي، يتصل بقضية الاكراد، والتي يمكن القول انها الورقة التي تستطيع دمشق ان تكون عنصرا مؤثرا فيها، ولولاها لما كان عبد الله اوجلان يقبع في السجن الان. والهجمات الاخيرة التي استهدفت القوات التركية واوقعت عددا كبيرا من القتلى كانت بحسب جميع المتابعين ترجمة "ميسرة" لما يمكن ان تشكله الورقة الكردية في التوتر التركي _ السوري. ولقد كانت محاولة قلب هذه الورقة على السوريين صبيانية من خلال اغتيال المعارض الكردي السوري مشعل تمو، حيث كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية مؤخراً، أنّ "الاستخبارات التركية تقف وراء الجريمة رداً على القاء المخابرات السورية القبض على الضابط السوري الفار حسين هرموش داخل الأراضي التركية".
وبحسب الصحيفة فان "تركيا أرادت من وراء عملية الاغتيال تحقيق هدفين بضربة واحدة: الاول التخلص من معارض كردي هام ومميز، والثاني القاء التهمة على السلطات السورية الأمر الذي يمكن استثماره لتنشيط الاحتجاجات ضد السلطات السورية من جديد في شمال سوريا بعد حالة الهدوء التي عادت للمنطقة".
لكن السحر انقلب على الساحر، وبدا ان اردوغان يعبث اولا بملعبه الداخلي، وهذه ام الاخطاء الاستراتيجية، اذا لا يمكن ان يتخيل المرء كيف ان حربا تعد لتخاض في ساحة الخصم، يصبح احتمال ارتدادها الى داخل ساحته امرا واقعاً.
اما المربع الأخير الذي يمكن ان يفضح الخبث التركي ان لم نقل الغباء يكمن في جواب السؤال التالي: ماذا لو قررت سوريا خوض غمار الحرب مع اسرائيل في ذروة هجوم نظام اردوغان عليها، وهو احتمال مكتوب ومقرؤ ومهتم به في وسائل الاعلام الاسرائيلية بشكل يومي، لا بل ان قرع الطبول الاسرائيلية لضرب ايران كما يجري حاليا، لم يترجمه محللون اسرائيليون سوى انه "عملية تضليل سياسي وشخصي، حيث أن الخطر الحقيقي هو الإندلاع الوشيك لحرب بين سوريا وحزب الله من جانب واسرائيل من جانب آخر، وان تهديد الرئيس الاسد برد مزلزل على تورط الغرب في الاعمال العسكرية ضد نظامه يقترب من خلال هكذا سيناريو". هذه خلاصة مصادر موقع "تيك دبكا" الاسرائيلي الاستخباري كما نشرت ترجمته هذا الاسبوع (الاربعاء 9/11).
اذا حصل ذلك كيف ستطبق انقرة "استراتيجية الاحتواء" التي يحاول اردوغان جذب العالم العربي اليه عبر جزرة الصراع مع اسرائيل؟ هل ستبين الوقائع ان هذا الخطاب التصعيدي التركي ضد "اسرائيل" هو مجرد سياق "لفظي" اكثر مما هو اجراء عملي، مع العلم ان سعي اردوغان المحموم حاليا لاسقاط نظام بشار الاسد هو عين المصلحة الاسرائيلية ولب المطلب الذي تنشده تل ابيب، فكيف يتوازن السلوك الاستراتيجي التركي "السلبي" تجاه الدولة العبرية في وقت يجهد اردوغان لتخليصها من واحد من اشد الانظمة عداوة وبغضاء لها، اي نظام الاسد؟.
ماذا تفعل تركيا رجب طيب اردوغان بنفسها؟ واين هو وزير الخارجية احمد داوود اوغلو صاحب نظرية "صفر اخطاء" من السياسة الخارجية التي تتبعها انقرة حزب العدالة والتنمية الاسلامي؟
لفت مؤخرا تصريح للواء يحيي رحيم صفوي المستشار العسكري لقائد الثورة الاسلامية في ايران الامام السيد علي الخامنئي احصى فيه على الاقل ثلاثة اخطاء استراتيجية ترتكبها تركيا هي:
1 ـ الموافقة على اقامة الدرع الصاروخية الاطلسية على اراضيها، الموجهة بدرجة واحدة الى كل من ايران وروسيا.
2 ـ التعاون القائم بين انقرة وواشنطن والرياض وتل ابيب من أجل زعزعة الإستقرار والأمن في سوريا.
3 ـ ذهاب أردوغان الى القاهرة ليقول للمصريين ان النظام الجديد في بلدهم يجب ان يكون ليبرالياً وعلمانياً مما اثار استياء الاوساط الاسلامية في هذا البلد الذي يعتبر ان له دورا رياديا اقليميا يوازي او ينافس الدور التركي.
طبعا، ليست هذه هي الاخطاء الوحيدة، بل لعلها الابرز التي تتعلق بقضايا راهنة وملحة في المنطقة تتبع حيالها تركيا سلوكيات من شانها ان تعيدها عقودا الى الوراء، سيما انه في موازين القوى، على الاقل في قضية الدرع الصاروخي، واستعداء كل من طهران وموسكو بنشرها من دون اي حاجة دفاعية او هجومية لتركيا بها، يمثل سقطة غير محسوبة، لا يتوقع ان تعود بشيء من الفائدة على انقرة يمكن ان يقدمها لها الاميركيون او والاوروبيون.
وقد فسر كثير من المراقبين الفيتو الروسي في مجلس الامن ضد المشروع الاميركي الاوروبي التركي الذي يستهدف سوريا، (فضلا عن انه يؤكد تمسك موسكو بحليفها الاستراتيجي وتوفر له حاضنة دولية)، على انه رسالة مباشرة الى انقرة تبلغها فيه ان الدروع الصاروخي على اراضيها موجه بالدرجة الاولى ضدها، مما سينعكس على جملة ملفت تشتبك فيها القوتان الروسية والتركية، بينها ازمة اقليم ناغورني قرباخ بين آذربيجان وارمينيا، و جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة الناطقة بالتركية التي تسعى انقرة لمد نفوذها اليها الامر الذي تعتبره روسيا تهديدا لامنها القومي وتقاومه بشدة.
والسؤال المطروح هو ماذا تتوقع انقرة ان تستفيد من هذا الاداء الخارجي في قضايا شديدة الحساسية؟ فالملاحظ ان واشنطن وفريقها الغربي والعربي هم سياسيا وعسكريا واقتصاديا في وضع المأزوم في مجمل الملفات المتورطين فيها، من افغانستان الى العراق مرورا بفلسطين وصولا الى لبنان، وما بينهم من ملف مستجد اسمه الثورات العربية التي اطاحت حتى الان بحليفين اساسيين لواشنطن وتحاصر نظامين حليفين في اليمن والبحرين، فضلا عن الازمات العنيفة التي تضرب الاقتصادين الاميركي والاوروبي حالياً. في المقابل فان الاقتصادين الروسي والايراني يكادان يكونان الوحيدين في العالم الذين لم تصبهما شظايا الازمات الاقتصادية العالمية. كما انه في ميزان القضايا الدولية والاقليمية فان هذين البلدين يعتبران في مصاف الرابحين في الملفات الانفة الذكر وفي غيرها من مناطق النزاع والتوتر. فاين تكمن الحكمة في مجازفة انقرة بعلاقات لها تصنف جيدة ومتينة مع دول قوية مثل روسيا وايران لصالح علاقات خاسرة مع دول متراجعة مثل الولاويات المتحدة واوروبا واسرائيل؟
اذا اردنا ان نبدأ من المرحلة الاخيرة فان سقوط نظام معمر القذافي ورغم المساعدة المهمة التي قدمتها تركيا سياسيا ولوجستيا، فانها كانت الطرف الاسرع الذي اختفى عن واجهة الاحداث لصالح الاميركي الاوروبي، الذين سيجهدان لتقاسم الغنائم بعيدا عن انقرة، مما يكرر تجربتها الفاشلة في دعم غزو افغانستان عام 2001، وبعده غزو العراق الذي استاثرت به واشنطن قبل ان تخسره تدريجيا، ليتبين أن موطء القدم التركية في هذا البلد حصلت فقط بمساعدة ايرانية _ سورية. وتعرف انقرة اكثر من غيرها ان نظام العقوبات الدولي المفروض على ايران ارتد ايجابا لصالحها من خلال التعاملات المالية التي اقامتها البنوك التركية مع المؤسسات الايرانية المالية والاقتصادية، وهو امر ازعج واشنطن كثيراً.
وطبعا كان سلوك تركيا محل ثناء ايراني ترجم بفتح طريق العراق امامها، فعاد الأمران عليها بمنافع مالية ضخمة، وعزز من توجه انقرة نحو العالم الاسلامي اكثر فاكثر، بعد ان سدت اوروبا امامها ابواب العضوية في اتحادها الذي يبحث كل يوم عن سبل لالتقاط انفاسه الاقتصادية.
ولعل الاشارة الابرز عن سياسة الاذلال الاوروبي تجاه تركيا تمثلت بالتلاسن التركي _الفرنسي الاخير حول المجازر في ارمينيا. فرغم انخراط انقرة الكامل في ما يطلبه الاميركيون والاوروبيون منها تجاه سوريا، ورغم نشرها الدرع الصاروخي الاطلسي، فان ذلك لم يمنع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته الاخيرة لارمينيا من مطالبة تركيا بالاعتراف بارتكابها مجازر بحق الارمن، مذكرا في الوقت عينه بموقف بلاده الرافض لعضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي قائلا بالحرف ان "تركيا بلد جيد لكن ليس له مكان في الاتحاد الاوروبي".
ويفهم من ذلك ان كل التنازلات التركية لم تغير من طبيعة الاستعلاء الاوروبي في التعامل معها، لكن ملطش الغباء الاستراتيجي يكمن في ان انقرة ذهبت في عدائها تجاه نظام الرئيس بشار الاسد اكثر مما ذهب اليه الاميركيون والاوروبيون، الذي يتقنون فن البيع والشراء في السياسة ويمتهنون اسلوب رمي ادواتهم في منتصف الطريق او على قارعتها، مع الاشارة الى ان الخسائر الاستراتيجية التني جنتها انقرة من هذا السلوك العدائي تجاه دمشق تحتاج الى صفحات لاحصائها. ولا ضير من التذكير ان مؤسسة الدراما السورية لعبت دورا بارزا في مد جسور التواصل العربي التركي من خلال دبلجة المسلسلات التركية بكثافة وبطريقة جذبت اليها ملايين المشاهدين العرب ليتعرفوا في آلاف الحلقات، التافهة بالمعنى المهني، على العناصر السياحية والاقتصادية التجارية في هذا البلد، (المسلسلات هي عبارة عن عروضات سياحية وتجارية لماركات الالبسة والاقمشة والمفروشات وغيرها من السلع)، لا بل ذهبت الدراما السورية ابعد من ذلك الى محاولة تلطيف الصورة التاريخية للعثمانيين بعدما اتسمت بالعنف والبطش بابناء ملتهم من المسلمين، وليس الارمن فحسب.
واذا اردنا ان نوجز مخاطر سلوك انقرة هذا يكفي الاشارة الى انه في الحد الادنى يوجد ثلاثة مستويات من الانقسام الداخلي التركي حول الازمة السورية:
الاول ذات طابع سياسي بين حزب السلطة العدالة والتنمية واحزاب المعارضة التي لا توافق على اي من سلوكياته، وتعتبرها توريطا لانقرة في ازمة اكثر ما يمكن ان تصيب الاتراك انفسهم؛ وهو ما ترجمته زعيمة المعارضة بيرجول جولر التي تترأس حزب الشعب الجمهوري بزيارتها الاخيرة الى دمشق ولقائها القيادة السورية وحديثها عن مؤامرة يخطط لها وينفذها الغرب وتهدف الى غزو سوريا، ويتم فيها استخدام مصطلحات مثل الديقراطية والحرية، مكررة انتقادها العنيف لاداء حزب العدالة والتمنية الذي يورط تركيا في هذه الحرب.
المستوى الثاني ذات بعد طائفي، اذ ان التفسير المنطقي والمتداول على نحو علني هو ان خلفية سلوك اردوغان وفريقه تكمن في الانتصار لما يسمونه اكثرية سنية ضد اقلية علوية. هذه الحيثية المذهبية الفتنوية سيكون لها ارتدادات عميقة عى الساحة التركية حيث يشكل العلويون قوة شعبية واسعة في البلد تجعل منهم الشريحة الثانية بعد المسلمين السنة.
المستوى الثالث ذات بعد قومي، يتصل بقضية الاكراد، والتي يمكن القول انها الورقة التي تستطيع دمشق ان تكون عنصرا مؤثرا فيها، ولولاها لما كان عبد الله اوجلان يقبع في السجن الان. والهجمات الاخيرة التي استهدفت القوات التركية واوقعت عددا كبيرا من القتلى كانت بحسب جميع المتابعين ترجمة "ميسرة" لما يمكن ان تشكله الورقة الكردية في التوتر التركي _ السوري. ولقد كانت محاولة قلب هذه الورقة على السوريين صبيانية من خلال اغتيال المعارض الكردي السوري مشعل تمو، حيث كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية مؤخراً، أنّ "الاستخبارات التركية تقف وراء الجريمة رداً على القاء المخابرات السورية القبض على الضابط السوري الفار حسين هرموش داخل الأراضي التركية".
وبحسب الصحيفة فان "تركيا أرادت من وراء عملية الاغتيال تحقيق هدفين بضربة واحدة: الاول التخلص من معارض كردي هام ومميز، والثاني القاء التهمة على السلطات السورية الأمر الذي يمكن استثماره لتنشيط الاحتجاجات ضد السلطات السورية من جديد في شمال سوريا بعد حالة الهدوء التي عادت للمنطقة".
لكن السحر انقلب على الساحر، وبدا ان اردوغان يعبث اولا بملعبه الداخلي، وهذه ام الاخطاء الاستراتيجية، اذا لا يمكن ان يتخيل المرء كيف ان حربا تعد لتخاض في ساحة الخصم، يصبح احتمال ارتدادها الى داخل ساحته امرا واقعاً.
اما المربع الأخير الذي يمكن ان يفضح الخبث التركي ان لم نقل الغباء يكمن في جواب السؤال التالي: ماذا لو قررت سوريا خوض غمار الحرب مع اسرائيل في ذروة هجوم نظام اردوغان عليها، وهو احتمال مكتوب ومقرؤ ومهتم به في وسائل الاعلام الاسرائيلية بشكل يومي، لا بل ان قرع الطبول الاسرائيلية لضرب ايران كما يجري حاليا، لم يترجمه محللون اسرائيليون سوى انه "عملية تضليل سياسي وشخصي، حيث أن الخطر الحقيقي هو الإندلاع الوشيك لحرب بين سوريا وحزب الله من جانب واسرائيل من جانب آخر، وان تهديد الرئيس الاسد برد مزلزل على تورط الغرب في الاعمال العسكرية ضد نظامه يقترب من خلال هكذا سيناريو". هذه خلاصة مصادر موقع "تيك دبكا" الاسرائيلي الاستخباري كما نشرت ترجمته هذا الاسبوع (الاربعاء 9/11).
اذا حصل ذلك كيف ستطبق انقرة "استراتيجية الاحتواء" التي يحاول اردوغان جذب العالم العربي اليه عبر جزرة الصراع مع اسرائيل؟ هل ستبين الوقائع ان هذا الخطاب التصعيدي التركي ضد "اسرائيل" هو مجرد سياق "لفظي" اكثر مما هو اجراء عملي، مع العلم ان سعي اردوغان المحموم حاليا لاسقاط نظام بشار الاسد هو عين المصلحة الاسرائيلية ولب المطلب الذي تنشده تل ابيب، فكيف يتوازن السلوك الاستراتيجي التركي "السلبي" تجاه الدولة العبرية في وقت يجهد اردوغان لتخليصها من واحد من اشد الانظمة عداوة وبغضاء لها، اي نظام الاسد؟.