ارشيف من :آراء وتحليلات
هل يكفي الاعتذار الأميركي المتأخر جداً؟
بغداد ـ عادل الجبوري
أن تعتذر الولايات المتحدة الاميركية للعراقيين.. فهذا امر غير مألوف، وربما غير متوقع، ويحتاج الى وقفة طويلة، لان عنصر المفاجأة فيه يثير حزمة من التساؤلات والاثارات والاستفهامات.
لماذا الان بالتحديد تعتذر الولايات المتحدة عن اخطاء كارثية ارتكبتها بحق العراق والعراقيين؟.
ولماذا بعد اكثر من عقدين من الزمن؟.
ولماذا جاء الاعتذار على لسان ـ او بتعبير ادق بقلم ـ السفير الاميركي الحالي في العراق جيمس جيفري وليس من خلال اي مسؤول آخر اعلى مستوى، وفي احد مراكز القرار بواشنطن، كالبيت الابيض او وزارة الخارجية او الدفاع؟.
وهل الولايات المتحدة اخطأت بحق العراق فقط، وأخطأت في موقفها من الانتفاضة الشعبية عام 1991 بعد حرب تحرير الكويت، ولم تخطئ في مواقفها حيال احداث ووقائع اخرى؟.
وهل الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الاب هو الوحيد دون غيره من الرؤساء الاميركيين وكبار صناع القرار في واشنطن الذي اخطأ بحق العراقيين وغيرهم؟.
ليست هذه هي التساؤلات والاثارات والاستفهامات الوحيدة، بل هناك الكثير سواها.
وهذه الخطوة لم تشكل مفاجأة للعراقيين فحسب، وانما للاميركيين ايضا، فصحيفة "نيويورك تايمز" التي نشرت مقال الاعتذار للسفير جميس جيفري قالت "ان الاعتذار كان خطوة غير عادية للغاية من دبلوماسي رفيع المستوى عندما قدم السفير جفري الاعتذار مؤخرا للساسة وزعماء العشائر العراقية في جنوب العراق من موقف ادارة بوش الاب خلال الانتفاضة التي كانت بداية الربيع العربي".
ليس ذلك فحسب بل ان "نيويورك تايمز" اكدت "ان موقف بوش الاب كان شديد القسوة بالنسبة للعراقيين عندما شجع علنا الثورة ضد نظام صدام ثم امر القوات الأمريكية بالوقوف جانبا حين قمعت الثورة من قبل طائرات صدام حسين وفرق الاعدام في حمام الدم الذي حصد عشرات الآلاف من الأرواح".
قبل خمسين يوما من موعد الانسحاب الاميركي الكامل من العراق اطلقت واشنطن اعتذارها التاريخي للعراقيين، وبينما هو صدر من دبلوماسي رفيع المستوى يشغل موقعا رسميا في الادارة الاميركية، يشدد بعض المسؤولين الاميركيين على ان تصريحات جيفري تعكس رأيه الشخصي ولا تمثل في كل الاحوال اعتذارا رسميا بالنيابة عن حكومة الولايات المتحدة الاميركية.
واذا افترضنا جدلا ان واشنطن شعرت بخطئها وظلمها للعراقيين من خلال موقفها "المشين" حيال انتفاضة الشعب العراقي ضد نظام صدام في عام 1991، فهناك قائمة طويلة من المواقف المشينة التي تتطلب اعتذارات وتتطلب ربما تعويضات مادية ومعنوية لا للشعب العراقي فحسب وانما لشعوب ودول اخرى.
فالولايات المتحدة لعبت دورا كبيرا في اشعال الحرب العراقية ـ الايرانية واستمرارها لثمانية اعوام، حيث ادت الى هلاك مئات الالاف من الشعبين العراقي والايراني، ناهيك عن الخسائر والكوارث المادية والاقتصادية والبيئية والنفسية.
ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن خلفيات ومقدمات وتفاعلات غزو نظام صدام لدولة الكويت بعد نهاية الحرب مع ايران بعامين فقط.
والولايات المتحدة هي التي اوجدت تنظيم القاعدة والجماعات الارهابية المتطرفة وبمساهمة قوى اقليمية معينة قبل اكثر من ثلاثة عقود من الزمن. ولا يجهل المرء الجرائم البشعة التي ارتكبها تنظيم القاعدة في العراق خلال الاعوام التسعة الماضية التي اعقبت سقوط نظام صدام وعلى مرأى ومسمع القوات الاميركية التي ربما استخدمت هذا التنظيم في بعض الاوقات لإمرار اجنداتها في الساحة العراقية.
ليس جورج بوش الاب هو الوحيد الذي يستحضره العراقيون في اذهانهم حينما يستذكرون محطات المآسي والكوارث التي لحقت بهم على امتداد عقود من الزمن، فبوش لم يكن الاول ولم يكن الاخير، وقبل جيمس جيفري هناك اكثر من مسؤول اميركي اعترفوا واقروا بالاخطاء والحماقات الاميركية، فذاك قائد قوات التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت الجنرال الاميركي نورمان شوارتسكوف يعبر في مذكراته عن شعوره بالندم حيال اتفاق وقف اطلاق النار الذي سمح لصدام حسين ان يستخدم طائراته العمودية لقمع الثوار.
ويقول الاكاديمي والمسؤول السابق في ادارة الرئيس باراك اوباما نصر فالي "ان انتفاضة عام 1991 العراقية كانت اول ربيع عربي وليس عام 2003"، ويصف اعتذار السفير جيمس جيفري بأنه محاولة لاتمام وداع كامل لحدث ما زال يؤثر على العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الاميركية، باعتبار ان الجرح الذي تركه نظام صدام في نفوس الشيعة ما زال غائرا وعميقا".
وبنفس الاتجاه يشير نائب الرئيس العراقي السابق عادل عبد المهدي الى ان الاعتذار الاميركي انما جاء في جزء منه استجابة للمشاعر التي اثارها الربيع العربي في نفوس العراقيين، ولو كان الاميركيون قد تدخلوا انذاك ـ اي في عام 1991 ـ لكانوا قد وفروا على العراق عبء العقوبات ووحشية الرئيس صدام، فهذا على الاقل ومن خلال منظور ما نواجهه اليوم كان ذلك سيكون حلا افضل بكثير من ذلك الذي قدم في عام 2003".
وواضح ان مختلف الاوساط السياسية والشعبية والنخبوية العراقية تعاطت بسخرية وازدراء مع الاعتذار الاميركي، معتبرة انه لا ينطلق من قناعات حقيقية بحصول اخطاء بقدر ما يرتبط بحسابات وتقديرات للمصالح في هذه المرحلة اقتضت ان يطلق مثل هذا الاعتذار وبهذه الصيغة وبهذا التوقيت.
ومن يقول ان الولايات المتحدة هي وحدها التي اخطأت بحق العراق والعراقيين؟ اذ ان الكثير من الارقام والمعطيات والحقائق تؤكد بما لا يقبل الشك ان هناك اطرافا عربية ودولية عديدة ساهمت في مآسي العراقيين وكوارثهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر تنقل بعض المصادر ان رئيس الوزراء البريطاني الاسبق جون ميجر رد على الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز حينما طلب منه تقديم الدعم لمسلمي البوسنة والهرسك قائلا "جلالة الملك انت من وقف ضد انتفاضة الشعب العراقي ولم تسمح بقيام ثورة اسلامية في جواركم، فكيف تريد منا ان نسمح بقيام ثورة اسلامية بوسنية في قلب اوروبا"!.
قائمة الاخطاء والحماقات الاميركية طويلة، والاعتذار عن واحدة ـ حتى وان كان صادقا ـ فإنه لا يكفي، وحتى وان اعتذرت فكيف بالاخرين الذين وقفوا معها وساندوها وشجعوها سرا وعلانية وما يزالون؟!.