ارشيف من :آراء وتحليلات

"الأزمة السورية" بين سباق الإصلاح، و"التعريب"!!.

"الأزمة السورية" بين سباق الإصلاح، و"التعريب"!!.

"الماضي يتوارى بمكر اللص، لكنه لا يموت"
(نجيب محفوظ. في قصة: حكاية بلا بداية ولا نهاية)
لؤي توفيق حسن (*)
لم يكن القرار الأخير للجامعة العربية مستهجناً في تعليق عضوية سوريا؛ بل حتى عندما ذهب بعيداً في تحريض جيشها للتمرد. فما أُسْمِيَ من قبل بـ "المبادرة العربية" ذكرنا بخديعة (رفع المصاحف) ظاهرها "الحكم لله"، فيما هي تستبطن أمراً آخر... وهذا الآخر في حالتنا سنأتي عليه لاحقاً.
طبعاً نحن هنا نتحدث عن المبادرة تلك ليس بوصفها فعلاً عربياً بل بما هي حقيقتها: مجرد واجهة عربية لحركة سياسية أمريكية بامتياز. فقد بات من نافل القول ان النظام العربي الرسمي أشبه بدمية تتحرك بأصابع أميركية!، بما فيها بالطبع جامعته العربية التي بات أمينها العام أشبه بموظف أمريكي كحال الأمين العام للأمم المتحدة، مع فارق أن الأول يتلقى التعليمات عن طريق مجلس التعاون الخليجي. فيما الثاني مباشرةً عن طريق وزارة الخارجية الأمريكية!
انطلاقاً من هذه الثابتة فإن "المبادرة العربية" ليست إلا الباب الخلفي للتدويل الذي وجد السبيل مغلقاً عبر الأمم المتحدة بالفيتو المزدوج من روسيا، والصين؛ فجاء في مسعى جديد للضغط على هذين البلدين بالوساطة عبر ( اجماع عربي) يضع رفع الغطاء عن سوريا بموازاة مصالحهما في المنطقة.
لكن المفترض أن هذا لن يدفع روسيا للقلق كثيراً!، لأن مصالحها في العالم العربي بالأساس لم تعد وازنة بعد خسارتها لليبيا ـ ومنها افريقيا بالتواتر ـ بحيث لم يعد لها في المنطقة سوى سوريا فقط التي كما هو معروف توفر للأسطول الروسي قاعدة بحرية للإمداد والتموين؛ هذا فضلاً عن موقعها الجيواستراتيجي الذي يجعلها نقطة الإرتكاز الوحيدة لموسكو في الشرق الأوسط.
نحن أمام مشهد مركّب من كباش دولي، فأمريكا بعد اضطرارها للإنسحاب من العراق لن تكون مطمئنة إذا ما تحقق الوصل الجغرافي لمحورٍ يمتد من طهران وحتى شرق المتوسط ـ مروراً بالعراق طبعاً ـ. هذا أقسى ما يمكن ان تواجهه واشنطن لأنه سيؤدي من الوجهة الجيواستراتيجية الى أمرين معاً:
أولاً: التضييق على الوجود الأمريكي في منطقة الجزيرة العربية الذي سيبدو محاطاً ـ أو شبه مطوّق ـ من هذا المحور لجهة الشمال والشرق؛ فيما الوضع اليمني جنوباً، وغرباً في مصر، مفتوح على احتمالات مقلقة للولايات المتحدة.
ثانياً: ان هذه الميّزة الجيواستراتيجية ستعطي جرعة مضاعفة لحالة "الممانعة" السورية، فضلاً عن المزيد من المزايا لقوة الردع والتصدي المتمثل في المقاومة اللبنانية.
امام هذا المشهد غير المطمئن امريكياً سعت الاخيرة وتسعى لكسر هذا المحور من مكان ما. فكانت سوريا هي نقطة الخرق، من غير ان يعني هذا بأنه يختزل باقي الأسباب لكل ما جرى ويجري في سوريا. كذلك وبذات السياق، ولنفس الدواعي عادت امريكا لإحياء موجة الإضرابات في العراق مع اشتداد موجة الإغتيالات والتفجيرات مجدداً، في محاولة حثيثة لإشاعة جو بأن انسحابها سيؤدي الى الفوضى، في فصل آخر من الضغط على حكومة المالكي كيما تعيد النظر في قرارها بسحب كامل القوات الامريكية.
عودةٌ الى ما أُسمي: "المبادرة العربية" فهذه تهدف من الوجهة السياسية الى تعويم "المجلس الوطني الإنتقالي". ومن الناحية العملية إيجاد مخرج يمكن منه تعديل موازين القوى على الأرض بعد أن أظهرت الأشهر السبعة المنصرمة أن النظام أصلب من أن يُكسر عودُه، وبعد ان أثبتت وقائع الميدان أن التكتيك المتبع في التضييق على التنظيمات المسلحة ثم قضمها شيئاً فشيئاً قد حقق نتائج ملموسة. لذلك فقد كان أحد بنود "المبادرة" تحييد الجيش بسحبه من ساحة الصراع بحيث يصبح الشارع مستباحاً وصولاً لشل الحياة فيه استكمالاً للجهود المبذولة في إفلاس الدولة، فضلاً عن اعطاء التنظيمات المسلحة الفرصة لإعادة ترميم وتنظيم صفوفهاً.
لكن وما إن لمست الولايات المتحدة تصميم دمشق على عدم إعطاء التنظيمات المسلحة هذه الفرصة سارعت الى اجهاض "المبادرة العربية" سريعاً، وقد صدمتها تلك العمليات النوعية للجيش السوري التي حقق منها صيداً ثميناً في عدة مدن كان أبرزها في حمص.
بعد هذا التصعيد الأمريكي يبرز السؤال: ما هي امكانيات استطالة "المبادرة العربية" الى مخلب تستخدمه امريكا؟!. هذا بعد التسليم بأن احتمال تدخل مباشر من "الناتو" امرٌ مستبعدٌ بالنظر لتكاليفه العالية في الحالة السورية قياساً بالحالة الليبية، ولا سيما في ظل هذه التفليسة الإقتصادية التي يعانيها الغرب.
هناك حديث عن حزام أمني شمالي برعاية تركية، وآخر جنوبي برعاية خليجية. لكن هذا الإحتمال يبدو غير واقعي. إذ ان ايّاً من هذين الحزامين سيشكل استنزافاً لدولته الراعية له. هذا ما يعرفة جيداً الجنرالات الاتراك، ويفترض ان يعرفه الأردن الذي يجتاحه "الربيع العربي"!!. بينما تملك سوريا الكثير من الأوراق والمعطيات ما يمكنها من جعل هذين الحزامين عبئاً على اصحابهما.
لذلك فإن المرجح بأن يظل الضغط في الداخل متواصلاً فيما يبدو رهاناً على الدم!؛ يعززه عملٌ خارجي يتقدمه كما ذكرنا تعويم "المجلس الإنتقالي السوري". ما يستدعي الرد بالمسارعة إلى تنفيذ حزمة من اصلاحات فعلية وملموسة في الداخل بما يقطع الطريق على أية (وكالات) عربية يوماً ما في الداخل السوري، تحت مسمى تسوية، او حل "القضية السورية"!. أي شبيه لما جرى في لبنان!.
لقد بات حصر الأزمة في الداخل السوري والحد من فعالية اي تدخل خارجي يقتضي المسارعة في حركة اصلاحية تؤدي الى خلق واقع سياسي مغاير تدشنه حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية لا يضير أن تكون من صفوف معارضة الداخل التي لم تتلوث بالتعاون مع الخارج.
للتذكير فقط فقد بدأت "الازمة اللبنانية" في السبعينيات بالتعريب ـ (اللجنة العربية السداسية) ـ تحت رعاية الجامعة العربية، ثم سويت بالتعريب أيضاً الذي تحول معه لبنان الى ميدانٍ لسباق (الخيول)!... ما كان هذا ليليق بلبنان!، فالأولى أن لا يليق بسوريا. التي ينبغي ان تعتبر كي لا تتجرع من ذات الكأس. لذلك قلنا منذ بداية الأزمة، ونكررها الآن: "من لم يتغير بشروطه مكتوب عليه أن يتغير بشروط الآخرين".
(*) كاتب من لبنان
2011-11-16