ارشيف من :آراء وتحليلات

قواعد أساسية لتفسير الحدث السوري

قواعد أساسية لتفسير الحدث السوري
عبد الحسين شبيب
اتسمت التحليلات التي راهنت على مبادرة الجامعة العربية بالسذاجة. والتذرع بحسن النية في ذلك هو مقتل لأصحابه وليس كفاءة لهم في فهم الممارسة السياسية لأطراف (دول وأشخاص) تمارس القتل الجماعي في مكان وتنادي بحقوق الانسان في مكان آخر. لا يُفهم كيف أقنع بعضهم نفسه بأن واشنطن التي تدير مباشرة الحرب المفتوحة على نظام الرئيس بشار الأسد ستسمح لبضع دول عربية بأن تقود حلاً يفك الخناق عنه، ويبقيه على قيد الحياة، في حين أن المتأمل في المشهد الإقليمي يرى فيه انهياراً دراماتيكياً للمنظومة الأميركية التي تدير واشنطن بواسطتها شبكة مصالحها في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
وثمة قواعد تفسيرية لا بد أن تبقى متوقدة في الأذهان أثناء مقاربة أي تحليل لمجريات الأحداث في سوريا تحديداً، وفي مجمل الثورات العربية عموماً.
أولى هذه القواعد أن الولايات المتحدة هي الخاسر الأول حتى إشعار آخر من ثورات الربيع العربي، حيث سقط لها حتى الآن نظامان حليفان في تونس ومصر، ويترنح نظامان تابعان لها في اليمن والبحرين، وأفلت من يدها لبنان، وثمة أنظمة عديدة في الأردن والمغرب وغيرهما ممن ينتظره الدور، ما يُوجِد لائحةً كبيرة بأسماء نوعية ان لم يكن سلطانها آيلاً الى السقوط، فعلى الأقل آيل إلى الاهتزاز الكبير.
وليس الحديث عن هذه التغيرات في حسابات صانعي القرار الأميركي ترفاً أكاديمياً يتبارى فيه الخبراء الاستراتيجيون أو مهارات صحفية تتسابق فيها وسائل الإعلام ومراسلوها على الأخبار العاجلة، بل هي تتصل بجوهر النفوذ الأميركي الذي يخسر يومياً (ليس بمعنى التوقيت التقليدي) حليفاً أو أداةً أو موقعاً، لن يكون على سبيل المثال العراق آخرها بعد شهر وبضعة أيام، تاريخ إتمام الانسحاب الأميركي من العراق.
يعني ذلك باختصار أن الإدارة الأميركية معنية بوقف عملية الانهيار والقيام ما أمكنها بعملية احتواء للأنظمة الجديدة في تونس ومصر وليبيا، فضلاً عن مبادرتها إلى تلقف أي تحرك ميداني يصيب خصومها في قلبهم، ومن أبرز هؤلاء نظام الرئيس بشار الأسد، فهل يعقل أن تسمح بأن يسقط حلفاؤها في تونس والقاهرة ويحاصرون في صنعاء والمنامة، ويبقى حاكم دمشق عضواً فاعلاً في محور الشر أو "الدول المارقة" أو محور المقاومة، علماً أن فرصة الحراك الميداني في سوريا بالشكل الموجود حالياً قد لا تتكرر متى توقف، لذا تعتبر واشنطن نفسها معنية بضخه بكل أسباب "القوة" لكي توجه ضربة قاصمة إلى "محور المقاومة الإيراني ـ السوري ـ اللبناني ـ الفلسطيني ـ العراقي".
القاعدة الثانية التي تفوت الكثيرين من المغامرين في التحليل السياسي والمواقف الارتجالية هي أن أضلع محور المقاومة هذه من دول ومنظمات وقيادات ليست معنية بممارسة القراءات الاستراتيجية وإطلاق التصريحات لرفع المعنويات، بل هي معنية بالقيام إما بهجمات مضادة أو بعمليات احتواء للهجوم الأميركي ـ الإسرائيلي ـ العربي على أي منها، وتوفير ما أمكنها من أسباب القوة للصمود، ما يعني أن الحرب تستعر بأشكال مختلفة، حرب الإسقاط مقابل حرب الإبقاء. وبالتالي يمكن فهم ما يجري في سوريا الآن على أنه خلف هذا الضجيج الإعلامي ـ الغربي ـ الإسرائيلي ـ العربي عن سيناريوهات السقوط وتوقعاته وتوقيتاته وغيرها من أساليب الحرب النفسية، ثمة جهد كبير تقوم به أطراف فاعلة ومؤثرة لرد هذا الهجوم وإحباطه.
بناءً على ما تقدم يمكن فهم ما جرى من صيغة حل قدمتها الجامعة العربية على أنه جزء من أساليب الحرب الحديثة التي صاغتها واشنطن وفريقها بعناية بهدف تقديم مادة إضافية تدين الرئيس الأسد رسمياً باسم الجامعة من خلال فخ (خديعة) لا يتسم ناصبوه بالدهاء، بقدر ما يتسمون بالخبث والحقد. وخلاصة هذا الفخ أنه بعد انتهاء مهلة الأسبوعين المحددة لاختبار النوايا وتنفيذ بنود الحل يخرج هؤلاء ويدينون عدم التزام القيادة السورية بما وافقت عليه، باعتبار أن ما يُبنى عليه من مواقف عربية وخارجية ويصدرونه عن "حقيقة الأحداث"هو ما يقولونه عبر فضائياتهم وخصوصاً قناتي "الجزيرة" و"العربية".
ولا يحتاج أحد لكي يفحص هذه اللعبة سوى أن يتابع اليوم التالي على اتفاق "الحل" ومدى التزام هاتين الفضائيتين به، بحيث كان واضحاً عدم الاستجابة لمطلب القيادة السورية بوقف التحريض والتضليل الاعلامي، وبقي ضخ "الجزيرة" و"العربية" وملحقاتهما على حاله من ثلاثية "تغطية الأحداث وتضخيمها وتلفيقها"، وكأن مبادرة لم تقرّ. وهكذا وبحسب الخطة المرسومة تتم "تعرية النظام" وكشف عدم صدقيته، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة جديدة من التصعيد، من ضمنها رفع منسوب الخطاب العدائي العربي والدولي ضده، وبدء التلويح بالعقوبات وما شاكل مما بدأ يظهر وله تتمة منذ انعقاد الاجتماع الوزاري العربي في القاهرة.
وفي المقابل فإن أي حل يحافظ على نظام دمشق هو في المنطق فرصة مهمة لا بد للقيادة السورية من أن تتلقفها، وهو ما حصل بالفعل، مع الإشارة طبعاً إلى أن الرئيس الأسد يعرف في الفهم الاستراتيجي أنه لا مكان في قاموس الحرب المفتوحة عليه لأي شيء اسمه حل لا عربي ولا غير عربي، لكن هذا لا يعني أن لا يلحق الكذاب إلى باب داره، ليكون ذلك جزءاً من العملية الاستيعابية، وهو تجاوب مع الحل إدراكاً منه إلى أن عدم التجاوب كان سيوفر ذريعة سريعة لإثبات ما يسمونه "سوء" نوايا النظام، ويقرب بالتالي موعد القرار الأخير بتعليق عضوية سوريا في الجامعة (المتخذ مسبقاً)، ومع ذلك قام الأسد بخطوات مهمة لتنفيذ بنود المبادرة، مع علمه المسبق بأنها لن تغير شيئاً في قناعة ناصبي الفخ. لكن الفائدة الكبرى تمثلت بكشف التورط الأميركي المباشر في إجهاض الحل والمتمثل بطلب واشنطن رسمياً من المسلحين عدم تسليم أنفسهم والاستمرار ضمناً بما يقومون به، ليكون ذلك بمثابة دليل إضافي على تأكيد صحة ما ذهبت إليه دمشق من أن هناك عملية خارجية منظمة تدار ضدها. مع الإشارة إلى أنه لا يعوز الرئيس الأسد الدليل، وبعض ما نشرته وثائق ويكيليكس فيه تفاصيل كثيرة تعود لسنوات خلت تضمنتها برقيات السفارة الاميركية في دمشق حيث تكشف عن تواصلها المباشر والميداني مع معارضين سوريين وتأهيلهم لكي يقوموا بما هو مطلوب منهم لاحقاً، وهو ما يحصل الآن.
وعليه فإن الرئيس الأسد وفريقه انتقلوا الآن إلى مرحلة جديدة من المواجهة انكشفت فيها أوراق بعض اللاعبين العرب، وباتت جامعة الدول العربية إحدى الادوات المباشرة للحرب عليها، بعدما كانت تمارس هذا الدور خفية، مع الإشارة طبعاً إلى أن هذه المؤسسة هي من بقايا النظام العربي الرسمي الذي تتهاوى زعاماته تباعاً، والأرجح أن طريقة تصرفها مع الأزمة السورية ستكون طريقاً إلى خرابها.
أما كيف ستنتهي الحرب فذاك سؤال ليس في البيت الابيض جواب له، وسبق للأميركيين أن تورطوا بحروب عرفوا كيف يبدأونها من دون أن يعرفوا كيف ينهونها، لكن ما هو مكتوب في السطر الأول من الجواب أن نتائج الجبهة السورية مرتبطة بجبهات وحروب عدة تخوضها واشنطن وحلفاؤها مع محور المقاومة، ومع روسيا والصين أيضاً، وليس على شبكة تويتر أو على الحدود اللبنانية ـ السورية، ومن المبكر التكهن بنتيجة ولو حرب واحدة منها.

2011-11-19