ارشيف من :آراء وتحليلات
أميركا والصين: حرب تحت الرماد
حسام مطر
يشعر الأميركيون أن الصين أخذتهم على حين غرة، بعد أن تركتهم يتوهون في أزقة الأزمات الدولية وأعبائها وتكاليفها وتعقيداتها مدفوعين بغطرسة واهمة وأنانية مفرطة، في حين كان الصينيون يجمعون الليل والنهار بالعمل الكاد والهادئ معاندين شهوة إبراز الذات وعرض القوة مفضلين الابتعاد عن المسؤوليات الدولية والتركيز على بناء قوة وطنية وإقليمية لم يسبق لها مثيل. إستفاق الأميركيون أخيراً بفعل الأزمة الإقتصادية، فأدركوا أنهم تجاوزوا ذروتهم بما يحتم عليهم التقشف وحصر الأولويات بهدف ملاقاة الصين قبل فوات الأوان، ولذلك قرروا الإنسحاب من الإلتزامات الدولية قدر المستطاع لتركيز جهدهم في الباسيفيك، وأبلغوا حلفاءهم بأن زمن "الراكب المجاني" قد ولى (راجع: حسام مطر، الصراع الدولي: من الشرق الأوسط الى الباسيفيك، جريدة الأخبار، 15 تشرين الأول 2011). إستشعر الأوروبيون عوارض اليُتم، وأما الحلفاء العرب فتاهوا في دوامة من الخوف والقلق والضياع ولم يجدوا سوى حبل خلاص وحيد "سوريا"، لعلهم بذلك يصلحون ميزان القوى الذي اختل لمصلحة إيران وحلفائها بعد 8 سنوات من الكباش الإقليمي الدامي.
يسيطر الهاجس الصيني على مراكز الدراسات الأميركية وصانعي القرار، إذ إنه رغم الإجماع العارم على ما تمثله الصين من تحدّ لدور الولايات المتحدة في قيادة العالم، إلا أن النقاش المحتدم يدور حول سبل مواجهة هذا التحدي وتداعياته. يميل فريق من الأميركيين الى الرأي القائل بإمكان التعاون مع الصين عبر إدماجها بالنظام الدولي والإعتراف بموقعها ومصالحها فيه مقابل إشراكها في المسؤوليات والأعباء الدولية، ويحذر هؤلاء من معاملة الصين كعدو لأن ذلك سيجعل منها عدواً بشكل قطعي. فقد صرح كيسينجر بأن علاقة تعاونية بين الصين وأميركا من شأنها منع التصادم بينهما، حيث "الهاجس الأميركي هو في منع دولة واحدة من السيطرة على آسيا"، رافضاً مقولة "الصعود الصيني" إذ ان الصين كانت القوة الأبرز في العالم على مدى 18 قرنا من أصل 20، واليوم تعود الصين الى هذا الموقع التاريخي لا غير".
في المقابل يدعو إتجاه آخر ـ وهو الأكثر حضوراً ـ الى ممارسة سياسة إحتواء واضحة تجاه الصعود الصيني وذلك من خلال تعزيز الحضور العسكري الأميركي في منطقة الباسيفيك ـ شرق آسيا، تمتين التعاون الإستراتيجي مع دول المنطقة لا سيما كوريا الجنوبية، اليابان، تايوان أستراليا والهند، ممارسة ضغوط سياسية على الصين لمراجعة سياستها النقدية والإقتصادية، إشاعة الخوف والقلق تجاه الصين في المنطقة، والسعي لمواجهة تمدد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، أميركا اللاتينية وأفريقيا.
وبناءً عليه، يبدو أن إدارة أوباما تتأرجح بين الخيارين، إلا أنها تميل أكثر نحو الإتجاه الثاني وإن كانت تصرح بالعكس كما قال أوباما هذا الأسبوع بأن واشنطن لا تخشى الصين ومستعدة للتعاون معها. ويبرز هذا التأرجح من خلال محاولة التقرب من الصين عبر تكثيف الزيارات العالية المستوى لا سيما في المجال العسكري، الحرص الأميركي على إبقاء الخطاب الرسمي متزناً وسلمياً ومفعماً بعبارات الثقة والتعاون، ومحاولة حل جملة أزمات من خلال الحوار المتبادل كما في شأن قضية تايوان وقيمة العملة الصينية. إلا أنه بالمقابل لا تتوانى واشنطن عن القيام بخطوات إحتوائية إذ قررت مؤخراً زيادة الوجود العسكري في أوستراليا، وأكدت إلتزامها بأمن واستقلال تايوان. والأهم هو الحملة الأميركية الدبلوماسية تجاه دول المنطقة والتي شهدت الكم الأكبر من الزيارات العالية المستوى لمسؤوليين أميركيين لا سيما لأوباما ووزيرة خارجيته كلينتون. وتركز واشنطن بشكل خاص على صياغة شراكة إستراتيجية مع الهند التي باعها اوباما وعداً بضمها لمجلس الأمن كعضو دائم، قبل أن يستطرد قائلا إن "صلاحيات اكبر تعني مسؤوليات اكبر".
أما الصين فما زالت تشدد على مبدأ "الصعود السلمي" لمواجهة محاولات الإحتواء والشيطنة الأميركية، لذا أصدرت الصين مؤخراً الورقة البيضاء المسماة "النمو السلمي الصيني" شددت فيها على الطابع الدفاعي للسياسة العسكرية الصينية. وقد حددت الورقة المسار، الأهداف، والسياسة الخارجية للنمو السلمي للصين، وماذا يعني هذا النمو على مستوى العالم. وقد تضمنت الوثيقة جملة ثوابت:
ـ "إن الهدف الأساسي من تحديث القوات العسكرية الصينية هو حماية سيادة وأمن ووحدة الصين ومصالحها في التنمية القومية".
ـ "إن الإنفاق العسكري الصيني ملائم ومعتدل، وإن الصين لن تدخل في سباق تسلح مع أي دولة اخرى، وكذلك لا تضمر أي تهديد عسكري لدولة اخرى".
ـ التنمية السلمية هي خيار إستراتيجي إتخذته الصين لتصبح أكثر قوةً، حداثةً وازدهاراً، ولتقديم مساهمات أكبر لتقدم الحضارة الإنسانية. وأكدت الورقة على سياسة بكين في حل النزاعات سلمياً وتشجيع التعاون الإقليمي والدولي ومواجهة الإرهاب بكل أشكاله.
ـ "إن الصعود السلمي للصين يقدم نموذجاً جديداً مختلفاً عن النماذج التقليدية للقوى الصاعدة التي كانت تسعى للهيمنة. أما الصين فلا تسعى للهيمنة الإقليمية، ولا تريد إستثناء أي دولة من التعاون الإقليمي. إن الإزدهار والنمو الصيني والإستقرار البعيد الأمد يقدم فرصاً للدول المجاورة وليس تهديداً لها".
وقد علق السفير الصيني السابق لدى واشنطن على الوثيقة بالقول إنها تصدر في لحظة تغييرات جوهرية في الوضع الدولي، وتظهر للعالم صدقية الصين وإرادتها القوية، وكذلك توضح الورقة الشكوك لأولئك المتسائلين حول النوايا الإستراتيجية للصين. لقد حددت الوثيقة بشكل واضح المصالح القومية للصين لا سيما تلك الجوهرية التي لا تحتمل المساومة. فيما أشار محللون صينييون آخرون الى أن لنشر الوثيقة أهدافا داخلية تتمثل في توحيد الفهم الوطني للسياسة الخارجية لا سيما بالنسبة لأولئك المطالبين بأن تصبح الصين أكثر عدوانية على الساحة الدولية.
إلا أن المقلق والخطير هو صعود المتطرفين في كلا البلدين، لا سيما على صعيد اليمين الأميركي الذي يقارب العلاقة مع الصين باعتبارها حالة حرب، كما يبدو من لهجة جون بولتون. وقد صرح المرشح الجمهوري المحتمل للمنافسة في الانتخابات الرئاسية الاميركية ميت رومني بأن الصين تشكل تهديداً إقتصادياً وثقافياً للولايات المتحدة، ما استدعى رداً من المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية دعا الى ضرورة ان يتخلى الساسة الأميركيون عن ذهنية الحرب الباردة واللعبة الصفرية حيث ان العلاقات الثنائية بين البلدين امر موضوعي وعقلاني وينعكس مكاسب للطرفين ويعزز قدرتهما على مواجهة التحديات والتشارك بالمسؤوليات. وقد حذر فريد زكريا مؤخراً من هذا التطرف الخطابي تجاه الصين في الحملة الإنتخابية للجمهوريين ولا سيما أنه يأتي لإرضاء الناخبين بعدما تبين أن أغلبية الأميركيين ينظرون للصين كخصم "وسارق للوظائف" وسبب مباشر لأزمتهم الإقتصادية.
ففي إستطلاع أجري مؤخراً قام به "صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة" تبين أن 63% من الأميركيين (مقابل 46% من الأوروبيين) يعتبرون ان الصين تشكل تهديدا للامن الإقتصادي للولايات المتحدة، في مقابل 31% منهم (مقابل 41% من الأوروبيين) إعتبروها فرصة إقتصادية. في حين أن 47% من الأميركيين (مقابل 30% من الأوروبيين) ينظرون الى الصين كتهديد عسكري، في مقابل 49% من الأميركيين يرفضون ذلك (مقابل 62% من الأوروبيين).
كل ذلك يؤكد أن حرباً قائمة بين القوتين إلا أنها ما زالت بدون "رصاص"، إلا أن تساؤلاً كبيراً يهيمن على عقول كثيريين: الى متى سيبقى "الرصاص" غائباً؟!!