ارشيف من :آراء وتحليلات

الانسحاب الأميركي من العراق: احتلال مقنّع أم فجر جديد في المشرق؟

الانسحاب الأميركي من العراق: احتلال مقنّع أم فجر جديد في المشرق؟

سركيس أبو زيد

حددت الإدارة الأمريكية 31 كانون الأول/ديسمبر من العام 2011 الموعد النهائي لانسحاب قواتها العسكرية من العراق. وقد وصف جون ماكين خصم أوباما في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2008 قرار الانسحاب بأنه " نكسة سيئة وحزينة للولايات المتحدة في العالم"، ورأى أنه يشكل "انتصاراً استراتيجياً" لأعداء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، "ولا سيما النظام الإيراني".

وقال ماكين الذي زار العراق مرات عدة منذ عام 2003، إن المسؤولين العسكريين قالوا له إن وجوداً عسكرياً أمريكياً بعد 2011 ضروري في هذا البلد، فيما قال أعضاء في الكونغرس الأمريكي في أيلول/سبتمبر الماضي، إن على الولايات المتحدة الاحتفاظ بعشرة آلاف جندي في العراق على الأقل بعد انسحاب قواتها من هناك بحلول نهاية العام الحالي.

إن الهزيمة الكبرى للمحافظين الجدد تتمثل في أن خطة بوش التي أطاحت بالرئيس السابق صدام حسين، العدو الأكبر لإيران، ساعدت على توسيع النفوذ الإيراني في العراق.

حاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما الوفاء بوعده أثناء حملته الانتخابية لإنهاء الحرب على الرغم من أنه كان يدعم جهود وزارة الدفاع - البنتاغون لإبرام اتفاق مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي للحفاظ على قواعد أمريكية وبضعة آلاف من الجنود لأجل غير مسمى. لكن المحادثات انهارت بسبب إصرار نواب البرلمان من مختلف الكتل على أن تخضع القوات الأمريكية للقانون العراقي إذا استمر وجودها في البلاد، وهو ما ترفضه واشنطن التي تصر على حصول جنودها على حصانة قانونية وترفض محاكمتهم أمام محاكم أجنبية.

أمام هذا الواقع، ما حقيقة هذا الانسحاب؟وما مدى استعداد الولايات المتحدة للتخلي عن العراق بهذه السهولة؟ هل ستخرج أمريكا حقاً من العراق، أم أن هناك ما يُعد في الخفاء لاستعادة ماء الوجه المفقود؟

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن انسحاب القوات العسكرية الامريكية من العراق مع نهاية العام الحالي. وكلما اقترب الموعد ازدادت التوقعات وكثرت الاحتمالات، وارتفعت وتيرة الاجتماعات واللقاءات بين الجانبين الأمريكي والعراقي، ما يثير عدم الارتياح والمخاوف من وجود اتفاق سري غير معلن بين الجانبين على إبقاء هذه القوات لفترة زمنية جديدة على الأراضي العراقية.

إن انسحاب أميركا من العراق سيشكل المحطة الأبرز في تراجع مشروع التوسع الأميركي بعد 11 أيلول/سبتمبر. لكن الأميركيين يعرفون أنهم ليسوا قادرين البتّة على ادّعاء قدرتهم على حماية جنودهم، أو على منحهم شرعيّة شعبية، وأن المناصرين لهم من الحكام يخشون هم أيضاً الإعلان عن رغبتهم في بقاء هذه القوات. لكن الخطة المتبعة حالياً هي تهيئة الأرضية المناسبة لفرض أمر واقع يؤدي إلى نوع من "الاحتلال المقنّع " إذا فشلت صفقة إمرار تمديد محدود ومقونن.

وهكذا مؤخراً، تصاعدت موجات العنف بشكل لافت لعله يعزز قناعة العراقيين بأن حكومتهم عاجزة عن حمايتهم. كما تزايدت الخلافات العراقية ـ العراقية، بحيث برزت أطراف سياسية عراقية تطالب بخروج القوات الأمريكية وفقاً للموعد المحدد، وأطراف سياسية عراقية أخرى حذرة تطالب بضرورة استمرار بقاء القوات الأمريكية خوفاً من حرب أهلية يؤججها المحتل قبل خروجه.

أما دول الجوار الإقليمي العراقي، فهي أكثر اهتماماً بالنظر لوجود القوات الأمريكية في العراق، وفقاً لمصالحها، ومتطلبات حماية أمنها الإقليمي إزاء مستقبل العراق الذي بات محفوفاً بالمخاطر. ومن المتوقع أن تتضح الصورة أكثر فأكثر إزاء مدى مصداقية أو عدم مصداقية إنفاذ قرار خروج القوات الأمريكية بالكامل من العراق في نهاية هذا العام.

أما في حالة بقاء القوات الأمريكية، بأي شكل وأية صيغة، فمن المتوقع أن تظهر بعض الفعاليات المسلحة الجديدة التي تسعى إلى استخدام القوة ضد وجود القوات الأمريكية، وأيضاً ضد القوى السياسية العراقية التي توافق على استمرار هذه القوات. ومن المتوقع أن يؤدي اشتعال هذا النزاع إلى عمليات استقطاب واصطفافات عراقية جديدة، تقوم على أساس: الرافضون لوجود القوات الأمريكية ضد المؤيدين لهذا الوجود من أي طائفة وفئة كانوا...

وعند خروج القوات الأمريكية، يتخوف العراقيون من خطر عودة المواجهات الأهلية ضمن سيناريوهات أُعد لها مسبقاً المحتل من أجل إغراق العراق في أتون الصراع الدامي الذي اكتوى به خلال عام 2006 وعام 2007م.

يمر العراق اليوم بمرحلة، ربما هي الأخطر في تاريخه، يبدو خلالها أكثر من أي فترة مضت مهدداً بالتقسيم إلى أربع دويلات، كردية في الشمال وسنيّة في الغرب وشيعية في الجنوب مع واحدة في محافظة بغداد تكون بؤرة للصراع والعنف والتفجيرات، وذلك مقدمة لتجزئة المنطقة إلى دويلات عرقية ودينية تجعل "إسرائيل" دولة طبيعية في هذه البقعة من العالم.

يعتبر بعض المراقبين أن الانسحاب الأمريكي من العراق هو نجاح لواشنطن وحدها، بسبب نقص في المناعة الوطنية العراقية لجهة القدرة على حماية وحدة الوطن والمجتمع، في حين يراهن آخرون على قدرة العراقيين على تجاوز المحنة والتحديات.

ويبقى السؤال الأساس: هل قرار الانسحاب اتخذه الرئيس أوباما مختاراً أو مضطراً؟؟؟... بالتأكيد مضطراً لأن الرفض الجماهيري لبقاء القوات الأمريكية كان قاطعاً وبالإجماع وضد الرغبة الكامنة لبعض القادة السياسيين والكتل الحاكمة، ممن نصّبتهم الإدارة الأمريكية والذين كانوا يتمنون بقاءها ليس حباً بالعراق وإنما حماية لسلطانهم... لذلك سعى الأميركيون ومعهم بعض الحلفاء داخل العراق إلى إيجاد صيغة التفافية تشرعن الاحتلال الأميركي ولو بشكل مقنّع على قاعدة الإقرار بما يطالب به الأميركيون وهو أن لديهم سفارة هي الأكبر في العالم بـ16 ألف موظف وميزانية يعتزمون رفعها في 2012 إلى 6.2 مليارات دولار، وما لا يقل عن 14 ممثلية في العراق، وهذه الأماكن بحاجة إلى وحدات عسكرية لحمايتها، وهذه الأخيرة بحاجة بدورها إلى وحدات دعم لوجستي واستخباري، فضلاً عن المدربين الذين سيبقون لتدريب الجيش العراقي، مع عرض أن يبلغ عددهم 10 آلاف مدرب... يعني حوالى 50 ألف جندي، هو في الأصل كل العدد الذي يطلبون تمديد وجوده في العراق. ولكن الأمريكيين ليسوا من الغباء بحيث يعرّضون حياة أبنائهم وجنودهم لحماية عملاء لا هم لهم سوى سرقة أموال الشعب. فمن الناحية الواقعية على الأرض الأمريكيون ما زالوا موجودين وبكثافة مؤثرة من خلال منتسبي السفارة الذين يعدون بالآلاف وشركات الحماية الخاصة وكذلك يعدون بالآلاف، وعناصر المخابرات الامريكية والموجودين في كل دربونة وزقاق (كما يقول العراقيون) وأيضاً يعدون بالآلاف، والمستشارين الذين دربتهم وتعاقدت معهم الحكومة الأمريكية، ومن أصل عراقي من مزدوجي الجنسية وسلمتهم كل المناصب الحساسة في الدولة، وأيضاً يعدون بالمئات إن لم يكن بالآلاف، إضافة إلى الآلاف من أصدقائها وحلفائها من رعايا دول الجوار المعروفة بأطماعها بالعراق. إذاً، من الناحية العملية، أمريكا لن تترك العراق بمجرد انسحاب قواتها المسلحة ظاهرياً وشكلياً، فهي تخطط لتبقى موجودة وبثقل ولو بطرق ملتوية ومستورة حتى تتمكن متى تشاء وتسمح الظروف بأن تقلب الطاولة رأساً على عقب وبكل سهولة على من يتمرد على مخططاتها.

ولأن الوضع في العراق مصيري ويبشر بتحولات استراتيجية عميقة، الوضع في المنطقة ككل مشدود وينتظر: إما أن تنجح واشنطن بتمديد احتلالها المقنّع أو تترك العراق للفوضى والحروب الأهلية المدمرة على بلاد ما بين النهرين وجواره الملتهب وخاصة سوريا، وإما تنتصر إرادة الحياة في العراق فيخرج المحتل وتخرج معه الفتنة فتستعيد بلاد ما بين النهرين وحدتها وتعيد بناء جبهة شرقية مقاومة تمتد من إيران إلى المتوسط .
هل تشرق فعلاً شمس التحرير والحرية من الشرق في مطلع العام الجديد؟


2011-11-23