ارشيف من :آراء وتحليلات

موسم الاعترافات الأميركية القذرة: دليل الثورات العربية

موسم الاعترافات الأميركية القذرة: دليل الثورات العربية
عبد الحسين شبيب
وضع الاميركيون بين يدي الرأي العام في الايام القليلة الماضية مجموعة من الوثائق الهامة والخطيرة يمكن اذا قرأها من يهمهم الامر في عالمنا العربي الذي ينشد التغيير هذه الايام ان تشكل لهم مرشدا الى مرحلة ما بعد الثورات، فلا يلدغوا من جحر مرتين. الكلام هنا محض اميركي وليس من بنات افكار احد حتى يتهم صاحبه بنظرية المؤامرة. وفي لحظتنا الراهنة التي تهيئ لمتغيرات مصيرية في الشرق الاوسط يؤدي حسن قراءة هذه الوثائق وغيرها من المعطيات الى طرد اي وهم بالرهان على سلوك ايجابي لواشنطن تجاه اي مجموعة في هذه المنطقة، تحديدا من اولئك الذين يتوسلون اليوم الدعم الاميركي للانقضاض على انظمتهم.

الوثائق تتعلق بالنموذج العراقي الذي اختبرت فيه واشنطن كل ادواتها الديبلوماسية القذرة وفتكت خلال عقدين ـ من تاريخ غزو صدام حسين للكويت حتى تاريخ الانسحاب الاميركي المذل بعد اربعة اسابيع ـ بمئات الالاف من العراقيين قضوا اما بحروب صدام العبثية او بالحصار الدولي الجائر على العراق او اثناء وبعيد غزوه من قبل تحالف دولي قاده الاميركيون عام 2003.
الان وبعد عشرين عاما بالتمام، وبعدما سقطت المسؤولية الجزائية عن هذه الافعال الشنيعة والجرمية بدعوى مرور الزمن من وجهة نظر الاميركيين بدأت تظهر حقائق عن كيفية تلفيق حروب كبيرة وخبيثة بعناوين جميلة مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها مما يتطابق مع ما تزعمه واشنطن هذه الايام من حرص على هذه العناوين لتغطية الخلفيات الحقيقية لتدخلها في اكثر من بلد عربي.
واحدة من هذه الوثائق هي محاضر اجتماعات مجلس الامن القومي الاميركي التي عقدت عام 1990 لتهيئة مسرح الاحداث في الخليج لكي يغزو صدام حسين الكويت.
محضر الاجتماع الموقع في الثالث من تموز ذلك العام يعرض كلاما رسميا لمستشار الامن القومي الاميركي برنت سكوكروفت يكشف فيه كيف تلاعبت واشنطن بالطرفين العراقي والكويتي لجرهما الى الحرب حيث يقول حرفيا "ما زلنا نزوّد العراقيين بصور الأقمار الصناعية حول سرقة الكويت لنفطهم، ومن ناحية ثانية نحن نحرّض الكويتيين على عدم الاستجابة للمطالب العراقية وبضرورة ألا يسمحوا لهم بالخروج بأية مكاسب نتيجة ضغوطهم". اما الخلفية الحقيقية لترتيب هذا النزاع ومن ثم القيام بتدخل عسكري فهي بحسب النص الحرفي لمستشار الامن القومي الاميركي "إن تدخلنا سيكون خطوة باتجاه أهداف أكبر، أولها تواجدنا في المنطقة وسيطرتنا على النفط الخليجي والعراقي، وتأمين حلفائنا الاسرائيليين والاقتراب من الخطوط السوفياتية، وتدمير الآلة العسكرية العراقية التي أصبحت تقلق "اسرائيل"؛ وثانيها أنه سيكون بإمكاننا التدخل في شؤون أية دولة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بل سيكون بإمكاننا تغيير أنظمة حكم لا نريدها".
ويعيد سكوكروفت في مكان آخر من المحضر صياغة المعادلة بصورة نهائية على الشكل التالي: "إننا نحاول إدخال العراق في مصيدة الكويت، وعندها سنبدأ ولن نتوقف إلا بعد إسقاط صدام حسين. سنحارب تحت علم الأمم المتحدة، وإذا تحقق النصر فسيكون لنا وإذا تحققت الهزيمة فستكون لغيرنا... إن قرار ضرب العراق قد اتُخذ منذ فترة، ونحتاج فقط الى ذريعة لنسوّقها في مجلس الأمن لاستصدار قرار دولي بالأمر".
في تلك الاثناء وكجزء من ادبيات الموقف الاميركي ما بعد غزو صدام حسين للكويت بدأت واشنطن تغازل المعارضة العراقية التي بادرت في شهر شعبان الموافق ميلاديا للعام 1991 الى التحرك ميدانيا في جنوب العراق ونظمت انتفاضة شعبية مسلحة سرعان ما حققت نتائج ميدانية ملموسة مستفيدة من تضعضع القوة العراقية بعيد دحرها دوليا من الكويت. لكنها سرعان ما كانت ضحية المكر الاميركي الذي اعطى الضوء الاخضر لصدام بالقضاء على الانتفاضة رغم فرض منطقة حظر جوي على الطائرات العراقية في الجنوب، ووقفت القوات الاميركية والحليفة تتفرج على استخدام صدام حسين افتك الوسائل الوحشية في قمع المنتفضين على الظلم الذي عانوه من هذا النظام طوال عقود.
قبل ايام، في مطلع شهر تشرين الثاني الجاري، نشر السفير الاميركي في بغداد جيمس جيفري مقالة في صحيفة "نيويورك تايمز" اعتذر فيها رسميا من السياسيين وزعماء العشائر في جنوب العراق من موقف بلاده الذي ساعد صدام في قمع انتفاضة العام 91، ليقدم وثيقة اضافية تظهر حجم الارتكابات الفظيعة للادارة الاميركية، الى درجة ان صحيفة "نيويورك تايمز" نفسها عقبت على اعتذار السفير جيفري بوصف تلك الانتفاضة الشعبية بانها كانت بداية الربيع العربي ثم اردفت تقول: "ان موقف جورج بوش الاب كان شديد القسوة بالنسبة للعراقيين عندما شجع علنا الثورة ضد نظام صدام ثم امر القوات الأمريكية بالوقوف جانبا حين قمعت الثورة من قبل طائرات صدام حسين وفرق الاعدام في حمام الدم الذي حصد عشرات الآلاف من الأرواح".
طبعا سبق هذا الاعتراف الرسمي من ديبلوماسي اميركي رفيع وثائق بريطانية كشفت فحوى محادثة بين رئيس الوزراء البريطاني الاسبق جون ميجر يرد على الملك السعودي السابق فهد بن عبد العزيز حينما طلب منه تقديم الدعم لمسلمي البوسنة والهرسك بالقول: "جلالة الملك انت من وقف ضد انتفاضة الشعب العراقي ولم تسمح بقيام ثورة اسلامية في جواركم، فكيف تريد منا ان نسمح بقيام ثورة اسلامية بوسنية في قلب اوروبا"!.
وهذا يكشف ان السلوك الاميركي كان في جزء منه استجابة لطلب سعودي، وهو ما يتكرر اليوم مع انتفاضة الشعب البحريني حيث تصرفت واشنطن بطريقة مماثلة لتصرفها مع انتفاضة جنوب العراق آنذاك، وهو ما ابلغه مسؤول اميركي كبير لوزير عراقي مبررا فيه موقف ادارته مما يجري في البحرين.
اما آخر فضيحة اميركية فهي اعتراف الولايات المتحدة بسرقتها 21 مليار دولار من اموال العراق بعيد غزوه عام 2003، وفق تأكيدات رئيس لجنة "النزاهة" النيابية العراقية النائب بهاء الأعرجي، مبيناً أن الاكتشاف تم عن طريق المفتش الأميركي لإعادة إعمار العراق، وإثر تدخل لجنة "النزاهة" البرلمانية ومخاطبتها الأمم المتحدة، مع الاشارة الى ان هذه الأموال كانت موجودة لدى الولايات المتحدة قبل الاحتلال، ونقلت للعراق بعد الاحتلال، وبحسب صحيفة "لوس انجلوس تايمز" الأميركية فإن "التحقيقات مستمرة لمعرفة مصير الأموال العراقية التي كانت مجمدة من زمن صدام حسين وشحنت إلى بغداد بعد احتلالها. كما ان هناك محققاً أميركياً يدعى بوين اتهم في حزيران الماضي جهات لم يحددها بسرقة مبلغ قيمته 6.6 مليارات دولار أميركي من أموال إعادة إعمار العراق"، واصفاً العملية بـ"أكبر سرقة للأموال في التاريخ الأميركي".
الا تكفي هذه الوقائع الرسمية لكي تشكل مرجعا في تفسير السلوك الاميركي الحالي تجاه الثورات العربية، ولا سيما وهي تحاول اليوم ترويض ثورة مصر وتساهم في قمع ثورة البحرين وتحاول الالتفاف على ثورة اليمن، وتقود في سوريا ـ باسم الديمقراطيةـ عملية اسقاط النظام العربي الوحيد الذي يشكل تهديدا استراتيجيا للامن القومي الاسرائيلي، وهي تعتقد ان اسقاط الرئيس بشار الاسد يفتح لها الباب امام استيعاب نتائج هزيمتها المريرة في العراق بعدما حولته طوال عقود، على الاقل منذ دعم حرب صدام حسين على الثورة الاسلامية في ايران عام 1980، الى مختبر لأقذر العمليات العسكرية والأمنية والديبلوماسية. وبين كل هذا يبقى مصير المال العربي الضائع للانظمة المنهارة مجهولا بينما يوجد جهة واحدة في نيويورك فقط قادرة على تتبعه والتلاعب به وسرقته كما سرقت المليارات العراقية.
2011-11-25