ارشيف من :آراء وتحليلات
مصر: بؤس الأحزاب، ومجد الشباب
"مأساة العالم الذي نعيش فيه أن السلطة كثيراً ما تستقر في أيدي العاجزين"
ـ برنارد شو ـ
لؤي توفيق حسن (*)ـ برنارد شو ـ
هذه الأيام المصرية الحافلة تذكرنا بمصر 1952 وهي على أعتاب ثورة تموز/ يوليو. أحزابٌ تتصارع لا همَّ لها سوى الكرسي. تتبارى في تسديد اللكمات لبعضها بعضاً. منها ما استقوى بالاستتباع للقصر الفاسد، ومنها ما استقوى بالاستزلام للإنكليز. لكن بين ثنايا هذه المفارقات كان هنالك جيل جديد يتشكل وينمو من خارج رحم هذه الأحزاب التي شاخت بعد أن تجاوزها الزمن.
ما أشبه اليوم بالأمس، فحال كل الأحزاب المصرية مكافئ لما كانت عليه قبل سبعة عقود ونيف من حيث فقدان الأهلية. فالناصريون الذين خرجوا من رحم عبد الناصر هم أشبه بالوفديين الذين خرجوا من قبل من رحم سعد زغلول. تفرق الناصريون إلى احزاب وشلل كما تفرق الوفديون إلى مجموعات متنافسة. أما الأحزاب الملكية آنذاك أي الموالية للقصر مثل (الاتحاد)، و(الشعب) فهما أقرب ما يكون الآن إلى (ثمرات) "الحزب الوطني" وقد أخرج اسماء جديدة بعد انتفاضة كانون الثاني/ يناير تتطلع لإعادة (تدوير) النظام، أو بالأحرى ترسيخه، وكأن ما حصل في مصر حتى الآن هو مجرد الإطاحة برأس النظام مع بقاء جسده سليماً. الفارق أن هذه الأحزاب لم يعد ممكناً لها تقديم الولاء لرئيس مخلوع إنما لخليفته: المجلس العسكري الذي بات الآن هو رأس النظام. هذا النظام الذي بُنِيَ على شبكة من المصالح قوامها رجال المال والأعمال، وقادة عسكريون وأمنيون، مع بعض زعماء العشائر في الأقاليم, هو شبكة (مافيوزية) بامتياز تتبادل المنافع والحصص على حساب الشعب المصري.
أما حزب الإخوان المسلمين فما زال هو هو منذ أن تركه حسن البنا، بنزعة جامحة للسلطة أياً كان ثمنها. نذكر هنا أنه في أوائل ثورة تموز/ يوليو 1952 سعى هذا (لاستيعاب) مجلس قيادتها، وعندما لم يستطع انقلب عليها ذاهباً بعيداً في التعامل مع أميركا حتى بات جزءاً رئيساً على أجندتها السياسية. الآن هم يعيدون الكرّة مستندين هذه المرة الى تحسن نسبي في حضورهم في الشارع المصري. والمؤكد أنهم يلقون ترحيب ودعم امريكا كمحصلة لتفاهم توّج شوطاً طويلاً من الاتصال معها يعود لوقت سابق لسقوط مبارك، وأفضى لتفاهمات جوهرية في قضايا حساسة تتصل بإسرائيل و(معاهدة السلام)، إيران، سوريا، وغيرها.
أما قولنا: "ما أشبه اليوم بالأمس"؛ فهو لا يعني أبداً أن التاريخ يكرر نفسه كما يتصور بعضهم، بل هو كما قال عنه كارل ماركس: إذا كرر التاريخ نفسه "يكون في المرة الأولى دراما مؤثرة ويصبح في المرة الثانية ملهاة مضحكة"!. ذاك لأنه في المرة الثانية يكون خارج دورة الحياة بما هي من صيرورة مستمرة ومتغيرة لها أسئلتها التي تبحث عن إجابات مختلفة. هذا هو واقع الأحزاب في مصر الآن من يمينها إلى يسارها بعد أن ننحي جانباً الأحزاب الهامشية والظرفية!!.
الانتفاضة الثانية فضحت الكثير من المستور، إذ لو دققنا في نوعية شبابها وشاباتها سنجدهم مزيجاً من تيارات أو نزعات سياسية متعددة. فيهم من هو غير ملتزم تنظيمياً، وفيهم الملتزم. لكن اللافت في هذا الأخير هو الخروج الصريح عن تنظيماتهم مندفعين بخيارهم الحر في الانتفاضة الثانية، وهو ما يبرز جلياً في قواعد التنظيمات الإسلامية بحيث بات نزول شريحه واسعة من شبابها وشاباتها إلى الساحات خروجاً على قرار قياداتها بعدم المشاركة في الانتفاضة تلك، بل على العكس، أي معارضتها والعمل على إجهاضها.
إنه المشهد ذاته الذي رأيناه بعد 25 كانون الثاني/ يناير. الناس في وادٍ، والأحزاب، و(الشخصيات) انتقلت الى وادٍ آخر لتبحث مع عمر سليمان عن فرصتها؛ بعد أن بدا لها أن النظام قد أوشك على السقوط. وها هم الآن مرة أخرى يبحثون عنها الآن في المجلس العسكري.
الخلاصة أن الانتفاضتين الأولى والثانية قد عرّتا هذه الأحزاب التي باسم الحرص على الاستقرار تحاول الالتفاف على إرادة الناس عبر الانتخابات المهزلة لما يُسمى: "مجلس الشعب"! حتى ولو جاء بنسبة من المقترعين متواضعة. فهذا في اعتقادها هو المخرج لها من تفليستها السياسية على مستوى الشارع، ومدخل للإمساك بناصية حياته من موقع السلطة، ما يحتم عليها، وجسد النظام السابق سليم، أن تكون شريكاً كامل الشراكة في إعادة إنتاجه بحلة جديدة، وهو أمرٌ غاية في السهولة مع هذه التعديلات الطفيفة في الدستور. والأبلغ هو تكريس قانون الانتخاب الحالي الذي سيتيح الفرصة كي تتسلل مجدداً (قيادات عشائرية) أو ظلال لها هي في مجملها من نتاج نظام مبارك وإحدى حلقات شبكته (المافيوزية).
إن قانون الانتخاب الحالي لا يساعد على تأطير القوى الجماهيرية في تشكيلات سياسية واسعة الانتشار ـ يصعب الاستفراد فيها ـ بقدر ما يتيح الفرصة لمجوعات من الانتهازيين كي تتعلق بالقطار أو (تتشعبط) عليه كما يقول المصريون بلهجتهم الدارجة. وبالتالي فإن كسر هذه الحلقة لتأمين مناخات عمل جماهيري واسع، وفتح الأفق على إمكانية قيام تشكيلات سياسية جديدة يستدعي نضالاً مطلبياً عنيداً آخرلتشريع قانون جديد للانتخابات على أساس: "مصر دائرة انتخابية واحدة"، وعلى قاعدة النسبية كما هو معمول به في عدد كبير من دول العالم.
يجب أن لا نتوقع مما سبق نتائج سريعة. ولكنه سيجعل الحياة مفتوحة على آفاق أوسع تسمح بالتفاؤل بعيداً عن التسليم بقدرية "حتمية التاريخ"، كما هي نقيضٌ لجبرية "نهاية التاريخ" عند المدعو فوكوياما!!.
مصر على المفترق فهل تراها تعود لتصنع مستقبلها، ومعه تاريخ المنطقة من جديد؟!.
(*) كاتب من لبنان