ارشيف من :آراء وتحليلات

الانسحاب الأميركي... بين الأرقام المعلنة والحقائق المخفية

الانسحاب الأميركي... بين الأرقام المعلنة والحقائق المخفية
بغداد ـ عادل الجبوري

في أحدث استطلاع للرأي اجراه مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي الذي يتخذ من العاصمة الفرنسية باريس مقراً له، بشأن موقف العراقيين من الوجود الاميركي في بلادهم، تبين ان 86.2 % من مجموع المُستطلعين لا يؤيدون بقاء القوات الأمريكية في العراق بعد نهاية العام الجاري. ورأت هذه النسبة من المستطلعين ان خروج قوات الاحتلال الأميركي يمثل مطلباً عراقياً عاماً بعد أن دمر العراق ومزق النسيج الاجتماعي للمجتمع فيه، وبعد ان ساهم في نشر الطائفية ونهب ثروات العراق، في حين رأى 11.8 % من المستطلعين ان بقاء القوات الأمريكية في العراق ولو بشكل رمزي يعد ضماناً للتوازن الإقليمي، وللدفع نحو مجتمع مدني في المنطقة العربية بحسب رأيهم.

ورأى 2 % من المستطلعين أن هذا شأن عراقي داخلي والشعب العراقي هو من يقرر ذلك، وخلص المركز إلى نتيجة مفادها انه "مع اقتراب موعد رحيل القوات الأميركية، يُجمع العراقيون فيما بينهم على هذه المسألة الهامة، حيث ان هناك من يصر على رحيل القوات الأميركية حتى قبل حلول الموعد المنتظر لأنهم يعتبرون أنها كانت السبب في نشوب حروب طائفية ومذهبية داخلية، كما يعتبرون أنها فشلت في بسط الأمن وإشاعة الديمقراطية.
وهناك طرف آخر وبنسبة صغيرة ـ وهم الاكراد ـ يطالبون ببقاء القوات الأميركية فترة زمنية إضافية من منطلق أن الحكومة العراقية لم تتمكن بعد من بناء قواها الأمنية التي تتيح لها فرض الأمن والاستقرار، وما بين الطرفين تتداخل العوامل الإقليمية والدولية، وهذا ما تحاول الولايات المتحدة الأميركية استغلاله بضغطها على الحكومة العراقية لإصدار قرار يتيح لها الابقاء على نحو 25 الف جندي على الأراضي العراقية ضمن قواعد عسكرية لحماية مقراتها الدبلوماسية وكوادرها العاملين".

ليس استطلاع مركز الدراسات العربي ـ الاوربي هو الوحيد الذي يخلص الى نتائج من هذا القبيل بشأن قضية مهمة للغاية، بل انها تتصدر قائمة القضايا الأكثر اهمية بالنسبة للعراقيين كنخب سياسية والمواطنين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم على وجه العموم، فهناك مؤسسات اخرى أجرت استطلاعات انتهت الى نتائج مفادها ان الرأي العام العراقي يحمل نظرة سلبية جدا الى الوجود الاميركي في البلاد.

ومن اجل ان تكون التقويمات والرؤى موضوعية، فإنه ينبغي تفكيك خلفيات وأبعاد تلك النظرة السلبية ولو على وجه الاجمال من دون الاستغراق في التفاصيل والجزئيات التي لاشك انها تحتاج الى مساحات واسعة تتعدى كثيراً الحيز الافتراضي لمقال في صحيفة يومية ـ ورقية كانت ام الكترونية ـ وهنا نشير الى الملاحظات التالية:

اولا: في نهاية العام الجاري، وهو موعد جلاء القوات الاميركية من العراق بالكامل، وفق الاتفاقية الأمنية المبرمة بين الطرفين اواخر عام 2008، يكون عمر الوجود الاميركي في العراق قد بلغ ثمانية أعوام وتسعة شهور وعشرة ايام. وقد حفلت تلك المرحلة الزمنية بأحداث ووقائع مؤلمة، بددت في جانب كبير منها فرحة العراقيين بزوال نظام حزب البعث الديكتاتوري الذي جثم على صدورهم خمسة وثلاثين عاما.

واليوم حينما تسأل أي عراقي عن رأيه بالوجود الاميركي في بلاده لما يقارب عقداً من الزمن فإنه سيقول.. اذا لم يساهم الاميركيون في اثارة الفتن وصنع المشاكل والازمات في العراق، فإنهم لم يساهموا بتقديم حلول ومعالجات عملية وواقعية لها بالرغم من امكانياتهم الكبيرة ونفوذهم الواسع، وانهم اذا لم يكونوا طرفا في تدمير البنى التحتية والمنشآت والمؤسسات الحيوية في البلاد، فهم لم يوفروا الارضيات المناسبة للاعمار والبناء والاصلاح، واذا لم يدمروا القدرات العسكرية والامنية والاقتصادية العراقية، فإنهم بكل تأكيد لم يعملوا على تطويرها بجدية وصدق ومهنية.

عشرات الالاف من الجنود الاميركيين ومعهم مختلف انواع الاسلحة والتجهيزات، وبقي العراق غارقا في دوامة الفوضى والعنف واللاستقرار لعدة اعوام، وربما تكون الاوضاع قد تحسنت نوعا ما مع انحسار الوجود الاميركي من الميدان. لا يعتقد معظم العراقيين ان الاوضاع يمكن ان تكون اسوأ بعد الانسحاب الاميركي، اذا تحقق فعلا.

ثانيا: المخاوف والهواجس التي تثيرها بعض الاطراف السياسية من مرحلة ما بعد الانسحاب هي في الواقع لا ترتبط بعدم قدرة القوات والاجهزة الامنية والعسكرية العراقية على ضبط الامور، وانما ترتبط باحتمالات اختلال التوازنات السياسية، لغير مصلحة تلك الاطراف، التي يعد الوجود الاميركي مسانداً وداعماً اساسياً لها.

وهناك اطراف عربية وإقليمية تبنت دعم ومساندة الجماعات الارهابية المسلحة في العراق تحت لافتة مقاومة الاحتلال، نراها اليوم تبذل اقصى ما في وسعها من اجل بقاء القوات الاميركية في هذا البلد، حتى انها راحت تبحث مع واشنطن وبعض الحلفاء الغربيين امكانية استصدار قرار من مجلس الامن الدولي بهذا الخصوص.

وهذا يعكس مقدار الازدواجية التي تعاطت بها قوى اقليمية ودولية مع الملف العراقي، بشكل ادى الى ازهاق الكثير من الارواح وسفك المزيد من الدماء، ناهيك عن الخسائر والاضرار المادية الهائلة.

ثالثا: الولايات المتحدة الاميركية سعت، وما زالت تسعى الى اتخاذ العراق قاعدة ومنطلقا للضغط على خصومها ومنافسيها مثل ايران بالدرجة الاساس، ومساندة اصدقائها وحلفائها مثل "اسرائيل" تحديدا، والتجربة ـ او التجارب ـ اثبتت انها غير معنية كثيرا بتداعيات الاوضاع المحلية العراقية اذا لم تؤثر سلبا على مصالحها وحساباتها، وهذا ما يقوله الاميركيون انفسهم، صراحة في بعض المرات وضمنا في مرات اخرى.

رابعا: ربما يقع في خطأ كبير من يعتقد ان الاميركيين سيتركون العراق ويغادرونه بالكامل بعد اربعة وثلاثين يوما، ومن دون شك الجزء الاكبر من قواتهم ستغادر، بيد ان ما سيتبقى منها، وهو الجزء القليل، هو الاخطر على مستقبل العراق والمنطقة، وهذا ما يتحتم على اصحاب الشأن الالتفات اليه والتحسب له.

وما تحدثنا فيه قبل بضعه اسابيع تحت عنوان (خصخصة الاحتلال في العراق!!) تضمن اشارات اولية وعامة لمكامن الخطر التي ينطوي عليها التوجه الاميركي للتعاطي مع العراق مستقبلا.

واذا كانت واشنطن طيلة الاعوام التسعة السابقة تمسك الميدان، وقواتها تصول وتجول حيثما تشاء وكيفما تشاء ووقتما تشاء، فإنها في مرحلة ما بعد الانسحاب ستتجه الى اسلوب ومنهج اخر، يقوم على اساس امساك المفاصل الحيوية والمهمة بهدوء وبعيدا عن الصخب والضجيج الاعلامي، فالسفارة الاميركية في بغداد بكوادرها الضخمة، والقنصليات والممثليات التابعة لها والموجودة في عدة مدن عراقية ستكون بمثابة دولة مصغرة حسب ما يريده بعض صناع القرار السياسي في واشنطن. الى جانب ذلك فإن هناك ما يسمى بمكتب التعاون الامني ـ العراق (OSC-I) الذي سيتولى مهمة التنسيق والتعاون مع السلطات العراقية.

ويشير الباحث المتخصص في الشؤون العسكرية والاستراتيجية بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى مايكل نايتس في دراسة له تحت عنوان (الاستفادة من الوجود العسكري الاميركي في العراق بعد عام 2011) الى "انه بينما اعتبر الرئيس باراك أوباما الحادي والثلاثين من شهر كانون الأول/ديسمبر 2011 بأنه اللحظة التي سيعبر فيها آخر الجنود الأمريكيين الحدود خارجين من العراق، لكن الواقع أكثر تعقيدا. وفي الحقيقة فإن أعدادا صغيرة من أفراد الجيش الأمريكي سيبقون هناك تحت سلطة رئيس البعثة (أي الدبلوماسيين تحت رئاسة السفير الأمريكي، وهو الوضع المُبيَّن في البند 3927، الباب 22 من القانون الأمريكي)".

ويضيف نايتس انه "ربما يكون وجود الحكومة الأمريكية في العراق من النوع الضخم حيث يتكون من نحو 16000 فرد وذلك طبقا لمكتب منسق نقل السلطة في العراق التابع لوزارة الخارجية الأمريكية. ومن هذا المجموع فإن نحو 14000 فرد سيكونون متعاقدين، من بينهم 4000 إلى 5000 متعاقدون أمنيون مسلحون مكلفون بحماية البعثة. وبالنظر إلى رفض بغداد المدربين العسكريين الأمريكيين الذين يعملون خارج سلطة رئيس البعثة فإن جهود المساعدة الأمنية سوف تكون مقصورة على ما يلي:

• مكتب التعاون الأمني ـ العراق (OSC-I). وسيشمل هذا المكتب مؤقتا 157 فردا تابعين لوزارة الدفاع و763 متعاقدا يعملون في فرق المساعدة الخاصة وطاقم الدعم. ومهمة المكتب هي "نُصح وتدريب ومساعدة وتجهيز" قوات الأمن العراقية. وسوف يركز أفراد البنتاغون على مراقبة القادة العراقيين وبناء قدرة مؤسساتية في الوزارات الأمنية وإدارة الاجتلاب الواسع لمعدات عسكرية أمريكية تحت مظلة برنامج المبيعات العسكرية الخارجية، وكذلك نقل المعدات العسكرية الأمريكية الزائدة إلى العراق. وأما فرق المساعدة الخاصة فسوف تدعم عقود اجتلاب الدفاع العراقية الفردية، ويمكن لعدد هذه الفرق أن يزيد لو جلب العراق المزيد من الأسلحة الأمريكية في المستقبل.

• هيئة تنفيذ القانون ومكافحة المخدرات الدولية. وسوف ينشر برنامج الهيئة نحو 1200 مدرب شرطي في العراق".

هذه الارقام ومثيلاتها هي في الواقع جزء من الصورة الكلية التي تبدو غامضة ومشوشة ومختلطة الالوان الى حد كبير، لا سيما مع عدم حسم الاطر القانونية لوجود هذه الاعداد الكبيرة من الاجانب في بلد يفترض انه يتمتع بالسيادة.

رغم ذلك فإن جزءا كبيرا من المبادرة سيكون بيد العراقيين، وتحديدا الساسة في مواقع صنع واتخاذ القرارات، وطبيعي ان المهمة صعبة ومعقدة وطويلة، وخصوصا ان العراق لا يمكنه ان يتحرك ويتصرف بمعزل عن التفاعلات الجارية في محيطيه العربي والاقليمي، بل وحتى في عموم الساحة الدولية، ونقطة القوة التي يمكن ان يرتكز عليها الساسة العراقيون هي الرأي العام العراقي قبل كل شيء.
2011-11-30