ارشيف من :آراء وتحليلات

سوريا منتصرة... بشهادة هرقل!

سوريا منتصرة... بشهادة هرقل!
عقيل الشيخ حسين

كان هرقل، إمبراطور بيزنطة أكثر حكمة ودراية وتبصراً بمآلات التاريخ من الاستراتيجيين الذين يرسمون في أيامنا سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

كان مقيماً في حمص يوم هزمت جيوشه في اليرموك، ثانية معارك الفتح الإسلامي خارج جزيرة العرب. وعندما وصل في انسحابه إلى جبال طوروس التي تفصل بين الأناضول وبلاد الشام، وقف واستدار جهة الجنوب وقال قولته الشهيرة : "وداعاً سوريا... إلى الأبد!".

ولم يكن هذا الوداع الذي ختم أكثر من خمسة عشر قرناً من السيطرة "الغربية"، المتكئة بالطبع على الغساسنة الذين يصح لهذا السبب وصفهم بالأعاريب، وداع من فقد الأمل، شخصياً، ببسط نفوذه مرة أخرى على سوريا (بلاد الشام التي حررها الإسلام القادم من جزيرة العرب)، بل وداع من فقد الأمل بقدرة خلفائه على إخضاع سوريا.

لكن سوريا عادت وسقطت في جملة المناطق التي كانت تتناتشها السلطنات "الإسلامية" المهشمة والمتناحرة فيما بينها، وبدا للحظة أن هرقل قد جانب الصواب عندما قال قولته الأخيرة. فقد جاء أحفاده الصليبيون وأقاموا ممالكهم التي استمر وجودها لقرنين في المنطقة قبل أن يندحروا على يد صلاح الدين الأيوبي بفضل الوحدة التي أقامها بين مصر وسوريا. لكن ذلك لم يحل دون عودة السلطنات والإمارات "الإسلامية" إلى التناتش فيما بينها.

وإذا كان المماليك "المسلمون" قد تمكنوا من إعادة اللحمة لبعض الوقت بين المناطق الإسلامية، فإن صراعاتهم فتحت الباب واسعاً أما العثمانيين لضربهم ولإعادة اللحمة لبعض الوقت بين مفاصل الأمة، قبل أن يحذوا حذو من كان قبلهم في سيرورة الانحطاط المتواصل.

ويبدو أن الجنرالين البريطاني، اللنبي، والفرنسي، غورو، لم يكونا على علم بما قاله هرقل. لذلك اكتفيا، عندما سقطت بلاد الشام في أيدي البريطانيين والفرنسيين، بأن يقفا على قبر صلاح الدين الأيوبي ويهتفان به، على سبيل الشماتة: "نحن هنا يا صلاح الدين" أو "لقد عدنا يا صلاح الدين".

ولعل صلاح الدين قد تململ في مثواه الأخير ألماً على ما فعلته الأمة من بعده في سيرورة الانحطاط والتردي التي توجت بأساس البلاء الذي خرج أيضاً من جزيرة العرب. لا أظن كثيراً من العرب يعرفون في هذا الزمن الذي محيت فيه الأمية، وارتفعت درجة الوعي، وتكاثر عشاق الحرية والديموقراطية، أن العرب الأعاريب الخارجين بثورتهم "الكبرى" من شبه جزيرة العرب، بقيادة لورنس، ومن خلفه الشريف حسين وأولاده، هم من قصم ظهر العثمانيين في بلاد الشام ولاحقوهم وقتلوهم قتلاً ذريعاً وأجهزوا على جرحاهم... قبل أن يسلموا الراية بكل أدب إلى الجنرالين اللنبي وغورو، وأن يبدأوا معهما مسيرة التسول التي عادت عليهم، بدلاً من الدولة العربية المستقلة، بأن نصّبوا، وفق اتفاقيات سايكس ـ بيكو، ملوكاً تابعين (كغساسنة البيزنطيين) على مقاطعة هنا سموها مملكة أو مقاطعة هناك سموها إمارة... في تكريس للتجزئة تمهيداً للمشروع الذي تمثل باغتصاب فلسطين وقيام دولة "إسرائيل".

تلك الـ "إسرائيل" التي انتهى الأعاريب إلى الهرولة نحوها والانبطاح أمامها كأشد ما تكون الهرولة والانبطاح، بالرغم من كل ما ارتكبته من جرائم وما وجهته من إهانات يأباها العربي الصميم، لم تعد عدوتهم. دخلوا معها ومع الحلف الأطلسي، عدوهم التاريخي، في تحالف تراودهم نفوسهم أن يسبغوا عليه صفة المقدس، ضد من؟

ضد البقية الباقية من المدافعين عن قضية العرب والمسلمين في وجه الغرب و"إسرائيل". أي ضد قوى الممانعة والمقاومة في المنطقة. وكل همهم اليوم، بعد حربهم الفاشلة على إيران الثورة الإسلامية، وبعد مؤامراتهم على سوريا والمقاومتين اللبنانية والفلسطينبة، أن يفتكوا بهم كما فتكوا من قبل بالعثمانيين، ليعودوا ويسلموا الراية إلى الجنرالات الأطلسيين والإسرائيليين، ليسلموهم مقابل ذلك مناصب في خدمتهم وفق مقتضيات خارطة الشرق الأوسط الجديد.

وهكذا يصبح بإمكانهم مثلاً، وهم أهل الكرم والضيافة، أن يتقدموا بدعوة "إسرائيل" للانضمام إلى جامعة دولهم، وحتى إلى ترؤسها وفق مقتضيات الشهامة وإيثار الجار، ويصبح بإمكانهم، وليس فيهم لشدة تعلقهم بما تعلمون، من يحسن في المؤتمرات قراءة النص المشكَّل بالألوان، فكيف بتدبير الحكم والقيام بالأمر، أن يكرسوا كل وقتهم وكل الأموال التي انتهبوها من شعوبهم للترحال البدوي بين منتجعات أوروبا وأميركا حيث يحلو العيش ويطيب المقام، بين اليخوت والقصور والمناسف والغلمان والقيان، وأن يتركوا شعوبهم في ظل النظام الشرق الأوسطي الجديد ليفعل بهم سادتهم الجدد فعل طسم بجديس. أعرف أن جل مثقفينا لم يسمعوا بطسم وجديس. يمكنهم إذا شاؤوا أن يراجعوا أخبار العرب، لعلّ شيئاً يعلق بأدمغتهم من مآثر العرب وحميّتهم ومروءتهم وشجاعتهم وأريحيتهم وخصوصاً من جديس التي بعد الذل والهوان حررتها صبية من ظلم طسم وتجبّرها عندما ألهبت مشاعر بني قومها وجعلتهم يدركون أن موتهم واقفين أفضل من حياتهم راكعين وساجدين.

سوريا اليوم، وما تتعرض له من ظلم ذوي القربي الذين تحولوا إلى مماليك في خدمة الصهيونية وحلف الناتو، هي الصرخة التي بدأت بإيقاظ الضمير العربي المثقل بمخازي الحكام وخياناتهم.

وسوريا اليوم لن تعتم أن تشهد لهرقل بصحة قولته، لأن اللنبي وغورو ومن لفّ لفهما قد أخليا الساحة لجنرالات جدد تهشمت أسنانهم في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، وستتهشم عظامهم وعظام جلاوزتهم فيما لو مدوا يدهم بالسوء نحو سوريا.

سوريا اليوم تؤذن بأكثر من إعادة الحياة إلى الجسد العربي المثقل بالهزائم والخيانات. صمودها فاتحة نظام عالمي جديد يقوم على أنقاض الهيمنة الغربية والصهيونية... وينزل هؤلاء الأقزام عن المنبر العربي... ويشهد لهرقل بحسن التبصر في مآلات التاريخ.

2011-12-01