ارشيف من :آراء وتحليلات

لبنان... ومستقبل الثورات العربية

لبنان... ومستقبل الثورات العربية

عقيل الشيخ حسين

يحلو لبعض أركان 14 آذار أن يعتبروا أن ما يسمى بثورة الأرز هي أولى الثورات العربية، أو إرهاص مهم بين إرهاصات تلك الثورات. ولا شك بأن هذا الاعتبار يتمتع بوجاهة أكيدة شرط أن تنتهي الثورات العربية إلى الارتماء في الحضن الصهيو ـ أميركي الذي ترعرعت أو ارتمت فيه ثورة الأرز.

أما فيما لو انتهت الثورات العربية إلى سلوك الطريق المعاكس، طريق الحرية الحقيقية التي لا تتحقق إلا بمقدار ما تدرك تلك الثورات أن دخولها التاريخ كأحداث فارقة في مسيرة الارتقاء بالقيم الإنسانية نحو الأفضل هو رهن بمدى كفاحها في مواجهة مشاريع الهيمنة الصهيو ـ أميركية... فإن ذلك الاعتبار لا يفقد كامل وجاهته: هنالك علاقة أكيدة بين الثورات العربية وبين لبنان... بوصفه واحداً من مفجرات تلك الثورات.

فلبنان تميز، باعتراف الجميع، بطليعيته على مستويات عديدة ليس أقلها اضطلاعه بدور منارة الإشعاع الفكري والأدبي في بدايات القرن العشرين، وهو الدور الذي واصل الاضطلاع به حتى بدايات الحرب الأهلية في العام 1975.

ومنذ نكسة العام 1967، تحول لبنان ـ إذا جاز التعبير ـ إلى مركز للثقل الثوري العربي الوثيق الصلة بالقضية الفلسطينية. فمن لبنان، عادت إلى الانطلاق بعد أن ذبحت في الأردن، المقاومة الفلسطينية المسلحة التي شكلت نقطة الضوء شبه الوحيدة في الظلام العربي الذي ساد بعد صدمة النكسة.

وبالتزامن مع ذلك، وفي ظل مشاركة شطر كبير من اللبنانيين في أنشطة المقاومة، بدأت بالتحطم ترسانة المقولات الانهزامية السائدة حينئذ عن قوة لبنان في ضعفه وعن العين التي لا تقوى على مواجهة المخرز.

بهذا المعنى، كانت الحرب الأهلية اللبنانية أولى الثورات العربية وأكثرها صفاءً في مجال انقلاب المفاهيم. لكن طابعها العفوي والمفتقر إلى الوضوح الكافي في الرؤية (وتلك سمات مشتركة بينها وبين الثورات العربية الحالية) جعلها تتردى في مهاوي الفوضى وزواريب الحرب الأهلية الطائفية (وذلك، من بعض الوجوه، هو أهم الأخطار التي تهدد الثورات العربية الحالية).

لكن ذلك لم يكن كل شيء. فالثورة اللبنانية مرت بمخاض صعب. ففي أجواء الاجتياح الإسرائيلي والتدخلات العسكرية الغربية، نبتت في رحمه إرهاصات مقاومة جديدة أعقبت خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت.

أما نقاء تلك الثورة وصفاؤها فتمثل بخروجها من متاهات الطائفية والاقتتال الأهلي، وبتوجيه كل أسلحتها نحو المحتل الإسرائيلي (وهو النموذج الذي يفترض اليوم بالثورات العربية أن تحذو حذوه لتحقيق ذاتها الحقيقية والأصيلة).

كما تمثل أيضاً بعدم الاكتفاء بالخروج من المتاهات: حققت الثورة اللبنانية إنجازاً بالغ الضخامة: حطمت جدران الطائفية عندما جمعت الأكثرية الساحقة من المسيحيين والأكثرية الساحقة من المسلمين في كتلة واحدة رائدها إصلاح الدولة اللبنانية واستكمال مسيرة التحرير، وذلك في سابقة تاريخية لا سابق لها.

ومثل هذا الإنجاز مطلوب أيضاً فيما يتعلق بالثورات العربية المدعوة إلى تلافي الانزلاق إلى شراك الطائفية والمذهبية والقبلية والإتنية والمناطقية وما إلى ذلك من آفات تعمل على تغذيتها الجهات المرتبطة بالمشروع الصهيو ـ أميركي.

بكل هذه المعاني، يمكن القول إن لبنان بماضيه القريب هو مستقبل العرب. مع التمني ألا تستغرق الثورات العربية، شأن الثورة اللبنانية، ستة عشر عاماً من التخبط قبل أن تهتدي إلى طريقها الصحيح.

وأغلب الظن أنها لن تضيّع كل هذا الوقت في البحث العشوائي. فالزمن يتحرك اليوم بسرعة أكبر، كما إن الظروف الذاتية والموضوعية السائدة الآن، إقليمياً ودولياً، أفضل بما لا يقاس مما كانت عليه عام 1967 أو 1975.

كان الزمن يومها زمن الهزيمة بامتياز. نقطة الضوء الوحيدة ذهب شطر مهم منها إلى أوسلو. وقبل أوسلو كانت اتفاقيات كمب دافيد وبعدها اتفاقيات وادي عربة والهروع العربي الكبير نحو تل أبيب. كان الزمن يومها زمن العربدة الغربية بامتياز بعد انهيار المعسكر الشيوعي واتساع آفاق الحلم الأميركي بالهيمنة على العالم.

لكن الزمن اليوم تحتشد فيه أنهار من الضوء: الثورة الإسلامية في إيران، الاندحار الإسرائيلي عن لبنان وتحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، صمود غزة وسوريا في وجه مؤامرات الأقربين والأبعدين، هزيمة أميركا في العراق، وقريباً في أفغانستان وباكستان... وأخيراً لا آخراً تهاوي الطواغيت في العديد من البلدان العربية واهتزاز العروش في بلدان عربية أخرى تحت ضربات الثورات العربية الصاعدة... تلك الثورات التي تلحظ في بعض تجاويفها أعراض وبثور شبيهة بثورة الأرز... لكن ذلك ليس أكثر من بقايا الظلام المندحر أمام طلائع الفجر.



2011-12-21