ارشيف من :آراء وتحليلات

"الأزمة السورية " في عالمٍ يتغيّر... بين اللا حل العربي والمخرج الروسي!

"الأزمة السورية " في عالمٍ يتغيّر... بين اللا حل العربي والمخرج الروسي!
لؤي توفيق حسن*

وقائع التاريخ الكبرى عائمات جليد. طرفها ظاهر فوق الماء وكتلتها الرئيسية تحت سطحه، ومن يُرِدْ استكشافها عليه أن يغوص.
محمد حسنين هيكل

إنها "مؤامرة"!!.. هكذا وقد أشكل الأمر على البعض في فهم حقيقة ما يسمى بـ "الربيع العربي" حيث لم يروه إلا من خلال (ظاهر) حرائقه التي استحوذت على مساحة البصر، وليس (جوهره) كفعل صيرورة تاريخية، وفي عالمٍ أصبح يتغيّر بشكلٍ دراماتيكي من أقصى شرقه إلى أقصى غربه.

النظام الرأسمالي دخل أزمةً غير مسبوقة ليست كغيرها من أزماته. بل هي نتاج تراكم مشاكله على مدى قرن بعد أن باتت الحروب ليست الباب لحلها، ـ أو بالأحرى تأجيلها! ـ بقدر ما باتت مدخلاً آخر لتأزيمها، ولذا يجمع العارفون بأن النظام المذكور قد دخل مأزقه التاريخي؛ كما سبق للشيوعية السوفييتية أن دخلت مأزقها من قبل.

المفارقة أن هذا النظام وأشده تعبيراً وصدارةً، الولايات المتحدة قد ساهم في إيجاد "خلطة البؤس" التي فجرت الثورات العربية، وغيرها مما سيأتي. خلطة البؤس التي قوامها: الفقر، البطالة، الفساد مع مستوى منخفض من الحريات والديمقراطية.

هل فوجئت أمريكا بهذه الثورات؟.. أم انها كانت تضعها بعين الإعتبار؟

هناك آراء متفاوتة بهذا الصدد. لكن بتقديرنا أنها لم تفاجأ بها تماماً؛ وإنما فوجئت بسرعتها. إذ مما لا شك فيه بأن تطور علم الإجتماع في الغرب ـ أسوةً بحاله في باقي العلوم ـ مع رصده لنا بدقة عبر مراكز أبحاثه، قد شخص المشكلة مسبقاً آخذاً بالبحث عن سيناريوهات لإعادة إنتاج الأنظمة في "البلدان الصديقة" بما يتناسب ومصالحه. لكن ما حدث في مصر وتونس جاء أسرع من التوقعات، وهذا يفسره المواقف المتذبذبة والمرتبكة للولايات المتحدة في تونس أو في مصر على حد سواء. إذ كان الميل في البداية هو إستيعاب تحرك الشارع بأدوات النظام نفسه. في تونس: محمد الغنوشي ثم فؤاد المبزع. في مصر: عمر سليمان. لكن لما بات هذا الحراك أكبر من أن يستوعبه أحد من داخل النظام جرت التضحية برأسه مع الحفاظ على الجسد في حركة إستباقية تولاها المجلس العسكري المصري، الذي أخذ بلعبة (تركيب الطرابيش) بدءاً من أحمد شفيق وليس انتهاءً بالجنزوري!!.

لكن الولايات المتحدة أيقنت بأن استيعاب (موجة) الثورات بشكل مجدٍ بات يستدعي مرحلة متقدمة من (التفاهم) مع القوى الواعدة لاستلام السلطة، وهي التيارات الإسلامية بكل ما يكتنفه هذا من مخاطر على المصالح الأميركية. بل هي شبه مؤكدة في تقدير العديد من المحللين. ولهذا حديثٌ آخر.

لاعب البوكر الأميركي

خلافاً لما يتوهمه البعض، لا تملك الولايات المتحدة أوراقاً مهمة في كل ما يجري. فضلاً عن أنها أمام استحقاقات داخلية تقيّد من حركتها كثيراً، لذلك ولسد هذا العجز تتصرف مثل لاعب البوكر الذي يوهم خصومه بأنه يملك أعلى ورق! في حين أن ما بين يديه هو الاسوأ! وذلك كله كي يحد من رهان الآخرين لكسب كل ما على المائدة!.

بدا ذلك واضحاً في تعاملها مع "الأزمة السورية". سعوا بدايةً لإيجاد مناطق عازلة، تحضيراً لتدخل خارجي في مقاربة شبيهة لما حدث في ليبيا. حتى إذا ما فشلوا انتقلوا إلى لعبة التدويل تمهيداً للحل وفق البند السابع كما حدث في العراق. وعندما بلغوا في هذا حائطاً مسدوداً، بالفيتو الروسي ـ الصيني تصوروا إمكانية القفز من فوقه وذلك بتبادل الأدوار مع "الجامعة العربية" معتقدين أنهم بذلك سيحشرون روسيا والصين في خياراتٍ ضيقة تسقط إمكانية استخدام أيّ منهما للفيتو، أي بما يسهل معه إمرار قرارٍ دولي في مجلس الأمن يسمح بتدويل "الأزمة السورية".

كان حجر الزاوية في هذه الفرضية أن سوريا سترفض "المبادرة العربية" لكن المفاجأة أن سوريا لم ترفضها. بل لعل المناورة الدبلوماسية السورية بين دراسة البروتوكول وتعديله ثم توقيعه أدت بالمحصّلة إلى سحب البساط من تحت أقدام قطر، وقدمت العراق لاعباً أساسياً في (الحل العربي).

المفاجأة الثانية أن روسيا أخذت المبادرة بتقديم ورقة إلى المجتمع الدولي رسمت من خلالها سقفاً للعبة!؛ وهي أن أي حل لا بد أن يكون بالحوار الداخلي وبرأسٍ سوري، ما يعطي للقيادة السورية الفرصة لأخذ زمام المبادرة لتكون هي محور العملية الحوارية.

والحقيقة أن المبارزة بين لاعب الشطرنج الروسي ولاعب البوكر الأميركي تتجاوز حدود التأييد الدبلوماسي لسوريا ليصبح ضربةً قويةً بقبضة اليد على الطاولة تقول للأميركيين: (ممنوع هنا!) بل أكثرمنه : "لستم وحدكم في هذا العالم".

وهذا يعيدنا إلى ما كنا قد ذكرناه من أننا أمام ولادة عالمٍ جديد. سيسجل التاريخ بأن واضع حجره الأساس هو المقاومة في لبنان يوم أسقطت مشروع "الشرق الأوسط الجديد" صيف 2006. ثم دشنه الآن الإنسحاب الأمريكي من العراق. وسيتوّجه لاحقاً الهروب من المستنقع الافغاني.

إنها حلقة جديدة من التاريخ تذكرنا بما تلى الحرب العالمية الثانية من تراجع لمكانة بريطانيا وفرنسا وسقوط المنظومة الإستعمارية لهما. إنه المشهد ذاته يتكرر الآن مع تراجع أحادية القطب الأمريكي مترافقاً مع حركة الشعوب لإسقاط الأنظمة التابعة له الأمر الذي ستتضح معالمه في المستقبل. نُذكّر بأن سقوط المنظومة الإستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية استغرق ما يزيد عن عقدين من الزمن.

معركة مفتوحة

غير ان هذا الموقف الدولي الملائم لا يعني قط بأن لدى النظام في سوريا وقتاً كبيراً يستطيع استنفاده من أجل القيام (بالإجراءات الميدانية) للخروج من الأزمة! فالولايات المتحدة التي امتطت موجة الحراك السوري الداخلي إنما فعلت بدوافع، وبرؤية مختلفة تماماً عما فعلته في الحالات العربية الأخرى. إذ في هذه الأخيرة ذهبت لتحد من الخسائر التي أصابتها مع انقلاب الطاولة فوق الأنظمة (الصديقة) لها. أما في الحالة السورية فهي تفعل لقلب الطاولة على النظام ـ "المناكف"ـ لتعوض خسارتها الإستراتيجية جراء انسحابها من العراق بكل ما سيترتب عليها من نتائج.

الفارق كبير، ما يعني بأن الولايات المتحدة دخلت في معركة مفتوحة. تستعيض فيها عن بلوغ أهدافها بالحل العسكري بمعركة طويلة النفس لاستنزاف النظام. وخير ميادينه هو هذا النوع من المواجهات بين قوى نظامية، وعصابات مسلحة تجد بيئةً تحتضنها من هنا أو من هناك .

الحل كما نعتقد مع الكثيرين هو عند هذه البيئة. اي لا يقتصر وحسب على إغلاق منافذ تهريب السلاح إلى هذه العصابات. وإنما المقصود بالحل هنا حزمة متكاملة من الإصلاحات الإقتصادية والسياسية، وذلك سيجعل الحراك السياسي الداخلي يتكامل مع جوهر المشروع الروسي الذي يسعى لتثبيت الحل بالحوار السوري الداخلي، كما سيؤدي بالتوافق إلى سحب البساط من تحت ما يسمى بـ (الحل العربي) الذي لا يطلب الحل عملياً! بدليل أن ( هدهد!) العرب وفرنسا برهان غليون! يتحدث بسقفٍ عالٍ عن "تأمين ملجأ آمن للرئيس الأسد"!. إنه الهوس بذاته الذي لا يتنافى وحسب مع الواقعية السياسية بقدر ما يتعارض ايضاً مع منطق من يطلب الحل، والحوار، ما يدل على أن مشغلي برهان غليون (الحقيقيين) لا يريدون اليوم ولا غداً إيجاد المخارج بقدر الالتفاف لقطع الطريق على أي حوارٍ داخليٍّ سوري يبقي النار مضطرمة طلباً للمزيد من استنزاف النظام لعلها بذلك تفتح لهم باباً جديداً للإختراق منها، أو كسب المباراة بالنقاط بعد أن استحال كسبها بالضربة القاضية حتى الآن.


*كاتب من لبنان
2011-12-23