ارشيف من :آراء وتحليلات
بعد الحرب المباشرة، الحرب الناعمة تلفظ أنفاسها الأخيرة!
عقيل الشيخ حسين
لكي تبرر حربها على العراق، سلكت إدارة بوش طريق الكذب من خلال أطروحتها عن أسلحة الدمار الشامل. من جهتها، سلكت إدارة أوباما طريق الكذب نفسه لا لتبرر الهزيمة الماحقة التي مني بها الأميركيون وحلفاؤهم وأذنابهم وحسب، بل أيضاً لتوهم شعوب الغرب والعالم أجمع بأن مهمة البنتاغون في العراق قد تكللت بالنجاح.
فقد سمح الرئيس الأميركي لنفسه بأن يقول: "لقد خرج جنودنا من العراق مرفوعي الرأس". وأضاف شارحاً وملمحاً إلى الديموقراطية التي وعد الغزاة بمنحها للعراقيين: "إن مستقبل العراق سيكون بيد شعبه". أي بيد من تبقى من هذا الشعب بعد ثمانية عشر عاماً من الحرب والمجازر والحظر الجوي والعقوبات التي راح ضحيتها أكثر من مليوني قتيل دون حساب الجرحى والمعوقين والمشردين، وبعد الحرب الناعمة التي تواصل الولايات المتحدة ومعسكر الشر الذي تتزعمه شنها ضد الشعب العراقي.
فالتفجيرات التي أغرقت العاصمة العراقية بالدم قبل أيام هي تعبير من تعبيرات تلك الحرب الناعمة: بتوزيعها الضربات بشكل "عادل" على الطائفتين الكبريين في العراق، وجاءت هذه التفجيرات لتشهد بأنه لا يمكن إلا أن تكون من صنع الاستخبارات الأميركية وفصائل عملائها ومستخدميها.
حتى المخاوف التي أبداها مسؤولون أميركيون كبار وشخصيات سياسية ووسائل إعلام عربية مجندة في خدمة الحرب الناعمة، من خطر انزلاق العراق وسوريا وغيرهما من بلدان المنطقة إلى أتون الحرب الطائفية لا هدف لها غير الترويج لمنطق الصراعات الطائفية التي يراهن عليها معسكر الشر الأميركي من أجل تحقيق الأهداف التي عجز عن تحقيقها عن طريق الحرب المباشرة.
إن الهزائم الأميركية والإسرائيلية في أفغانستان والعراق ولبنان وغزة، تضاف إلى الخوف من شن حرب مفتوحة على إيران، ومن التدخل المباشر في الشأن السوري لكي تعزز خيار الحرب الناعمة بقدر ما يبدو أن العمليات السرية وتأجيج الصراعات الداخلية من شأنها أن تحقق الأهداف المنشودة عبر إضعاف جميع القوى المتصارعة بما فيها تلك التي تنطلي عليها خرافة التحالف الجدي مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي.
تشهد على ذلك التجربة المشؤومة التي مرت بها الثورة العربية "الكبرى" التي طردت العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى باسم وعد قطعته القوتان الكبريان في تلك الفترة، بريطانيا وفرنسا، بإقامة دولة عربية موحدة ومستقلة تضم شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام.
بدلاً من تلك الدولة، وبموجب اتفاقيات سايكس ـ بيكو السرية، حصل العرب على حوالي عشرين دولة عاجزة وتابعة ومتخاصمة فيما بينها، ما سهّل إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، وسمح بتنحية البلدان العربية الكبرى الحاضنة للمشروع القومي العربي، مصر وسوريا والعراق، لحساب عدد من المحميات الخليجية السابقة التي تتنطح اليوم، بقوة البترودولارات، لكتابة تاريخ المنطقة من خلال التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والحلف الأطلسي.
وبالطبع، فإن العنعات الطائفية تتكامل مع حشد من الاختلافات الدينية والعرقية والجماعاتية والسياسية والاجتماعية التي يسعى محور الشر إلى مفاقمتها من أجل إثارة صراعات تخدم مشروع التفكيك الهادف إلى جعل الضفة الغربية ـ التي حولها الاحتلال الإسرائيلي إلى مجموعة من الجزر المتناثرة والمتباعدة التي تفصل بينها الأوتوسترادات والأسلاك الشائكة والجدران الفاصلة ـ نموذجاً للخارطة المستقبلية لما يسمونه بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إن الغرب يطالب منذ مدة طويلة بجعل النفط ثروة عالمية. وعليه، فإن إمارات وممالك ومشيخات الخليج التي باتت تعج بالقواعد العسكرية الغربية وبالجيوش السرية لن تكون بمنأى، عندما تأزف الآزفة عن شظايا الحرب الناعمة. شأنها في ذلك شأن تريليونات الدولارات التي كدسها العديد من القادة والأثرياء العرب في مصارف الغرب، والتي تحولت إلى أرقام بلا معنى بعد أن التهمتها الأزمة المالية التي تعصف بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لكن تلك اللحظة لن تأزف، لا لأن المجمعات العسكرية ـ الصناعية التي تملي على الساسة الغربيين سياساتهم قد فقدت شهيتها، بل لأن الحرب الناعمة التي تشن على قوى المقاومة العربية والإسلامية لن تكون أوفر حظاً من الحرب المباشرة. وها هي تمنى بالهزائم المرة في الحرب السيبرنتية وشبكات الجواسيس في إيران ولبنان.
إن ما يجري حالياً في العراق وسوريا ومصر، الحواضن العريقة للفكرة العربية والإسلامية الحقيقية لن يتأخر في استيلاد كتلة عربية إسلامية تمتد من إيران إلى المتوسط وتأخذ على عاتقها مهمة رسم الخارطة الموحدة للمنطقة ولكامل العالم الذي ينوء تحت ثقل أزماته التي لا مخرج منها.