ارشيف من :آراء وتحليلات
العام المقبل استمرار للعام الحالي... المواجهات مستمرة
مصطفى الحاج علي
يمكن اعتبار العام 2011 عام الزلازل في المنطقة لما يصاحبها عادة من تصدعات عميقة، ومن تبدلات في جغرافية الأرض، ومن ارتدادات بعيدة عن مركزها، ومن إثارة كثيفة للغبار، ما يجعل الرؤية غير واضحة إلى وقت يطول أو يكثر بحسب حجم الزلزال وقوته.
فعام 2011 كان عام الانتفاضات الشعبية التي أطاحت بأنظمة بوليسية تحكمت برقاب العباد، ومقدرات البلاد، عقوداً من الزمن، وهو عام الانهيارات المدوية، والتحولات النوعية، التي طالت العالم بأسره، فارضةً على الجميع إعادة تقويم الحسابات، وترتيب الأولويات، وصياغة المواقف السياسية الضرورية، على نحوٍ غير متوقع. من هنا، يتعذر رسم مقاربة لما يمكن أن تكون عليه الأمور عام 2012، بدون الوقوف على مغزى الزلازل التي ضربت منطقة الشرق الأوسط خصوصاً دائرته العربية.
وفي هذا الإطار، يمكن تسجيل العديد من الملاحظات المركزية، والتقاط العديد من الصور لظواهر متنوعة، والوقوف عند القضايا التي ستشكل مفتاح الصراعات الرئيسة في المنطقة خلال العام المقبل.
أولى الملاحظات، يتمثل في استعادة الشعوب لدورها وحضورها في معادلات المنطقة، وذلك عبر انتفاضات قوّضت العديد من فراعنة العصر، وتحاصر أو حاصرت بالفعل آخرين. والنقطة المركزية هنا، أنها وجدت طريقها إلى السلطة عبر ممارسة أبرز أشكال الديموقراطية أي الانتخابات. هذا الحضور لشعوب المنطقة لا يمكن النظر إليه إلا نظرة يشوبها التفاؤل، وخصوصاً أنه لا يمكن عكس حركتها في المدى القريب، ومن الصعب ـ بالتالي ـ إعادتها الى القمقم، بعد عشرات السنين من القهر والاستبداد، والإحباط والفشل والهزائم.
ثانية الملاحظات، تتمثل في أن المنطقة وعلى الرغم مما يعتمل فيها من متغيرات إلا أنها ما زالت تمر في مرحلة انتقالية من نظام سياسي ـ أمني إلى نظام غامض في هويته ومواصفاته وخياراته داخلياً وخارجياً، الأمر الذي يجعلها عرضة لأخطار وتحديات كبيرة.
ثالثة الملاحظات، أنه وبالتزامن مع حركة التغيير التي تعصف بالمنطقة، هناك صواعق تفجير كبيرة معدة، وقضايا صعبة هي بمثابة قنابل موقوتة متأهبة للانفجار في أي لحظة، ومع أي خطأ في الحساب أو التقدير، ومع أي تغيير له تداعياته الاستراتيجية، ما يجعل المنطقة بأسرها وكأنها رابضة بالفعل على بركان هائج متوثب للانفجار.
هذا على الصعيد العام، أما على الصعيد التفصيلي، فيمكن ملاحظة الظواهر الرئيسة التالية:
أولاً: ظاهرة صعود الإسلام السياسي الذي نجح في أن يحجز لنفسه موقعاً مؤثراً في مكان، ومهيمناً في مكان آخر. ورافق صعود هذه الظاهرة تساؤلات وعلامات استفهام مقلقة لامس بعضها مصير الأقليات وحقوق الإنسان والحريات، ولامس بعضها الآخر هوية الدولة والنظام، ولامس أيضاً خيارات هذه الحركات الاسلامية إزاء القضايا المركزية في العالم العربي كقضية فلسطين، وقضية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، والموقف من المشروع الأميركي الإستعماري، وعلاقات هذه الحركات مع دول المنطقة... الخ.
ثانياً: انهيار النظام الأمني ـ السياسي الذي حكم المنطقة لعقود من الزمن لمصلحة نظام أمني ـ سياسي غير محسوم شكلاً ومضموناً حتى الآن، بفعل طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة، والتي تتسم بالكثير من الغموض، يضاف إليها التعقيدات المتعاظمة لأشكال الصراع وأنماطه في المنطقة، والذي تتداخل فيه العناوين الدولية والاقليمية والمحلية، وتتنازع فيه الفرص مع التهديدات، والتحديات مع الأخطار.
ثالثاً: تجدد الصراع الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا في شكل جديد من أشكال الحرب الباردة، التي تختزن في داخلها استعدادات قوية لاتخاذ شكل المواجهات الساخنة نظراً لطبيعتها الاستراتيجية سواء ما يتعلق منها بالمصالح، أم ما يتعلق منها بإعادة رسم التوازنات الدولية، وتحديد شكل النظام الدولي الجديد.
رابعاً: ارتسام مشهد أولي لشكل جديد من الاصطفافات الجيو ـ سياسية. فبالنظر إلى هيمنة الإسلام السياسي على معظم المغرب العربي أو الشمال الأفريقي، يبدو وكأننا نشهد وحدة جيو ـ سياسية ناشئة قاسمها المشترك الرئيس نجاح عمليات التغيير فيها، وكوّن الإسلام السياسي العامل المؤثر الرئيس فيها، إلا أن هذه الوحدة ما زال ينتظرها الكثير لكي تتبلور كوحدة صلبة واضحة المعالم والتوجهات، سواء ما يتعلق منها بسياساتها داخل أوطانها، أو بخياراتها الاستراتيجية ازاء قضايا المنطقة وصراعاتها ومحاورها.
خليجياً ثمة مسعى سعودي لتحويل منظومة دول الخليج إلى كتلة جيو ـ سياسية واحدة لها أذرع باتجاه الأردن والمغرب، وكذلك باتجاه مصر والعراق ولبنان عبر الحركات الاسلامية التي تدور في فلكها، وكل ذلك من ضمن المواجهة الاستراتيجية مع محور المقاومة في المنطقة بقاعدته المركزية إيران.
مشرقياً ثمة محور قائم بالفعل، تعزز أكثر بعيد الانسحاب الاميركي من العراق، وهو ما يطلق عليه محور دول وحركات المقاومة والممانعة في المنطقة.
وبقدر ما يبدو المحور الخليجي مخروقاً بأزمتين كبيرتين، الأولى في البحرين والثانية في اليمن، فإن محور المقاومة ليس بأفضل حالا، حيث يبدو بدوره مخروقاً بأزمتين كبيرتين: الأولى في سوريا، والثانية في العراق، في حين أن لبنان يبدو واقفاً على أرض مترجرجة من الانتظار الصعب.
خامساً: على رغم خطورة الأزمة اليمنية والبحرينية والوضع غير المستقر داخل المملكة، على الوضع الاستراتيجي للرياض، فإن الأنظار تبدو مشدودة أكثر باتجاه:
أ ـ الأزمة في سوريا التي تحولت الى أزمة إقليمية ـ دولية بامتياز، يتوقف على حسم وجهتها الخط العام للتوازنات في المنطقة والعالم، هذه الأزمة بفعل تعقيدات الصراع فيها وعليها لا تبدو مفتوحة على حل سريع، بل قد تكون الأمور محل مراوحة صعبة، ومفتوحة على احتمالات شتى ومتنوعة.
ب ـ الأزمة العراقية في مرحلة ما بعد الخروج العسكري للاحتلال الأميركي، هذه الأزمة التي أخذت مؤخراً تسجل مؤشرات متنامية، وهي في خلاصتها انعكاس لمزيج من الفرص والتهديدات ذات الطابع الاستراتيجي بالقياس إلى الأطراف المعنية بها داخلياً وخارجياً، ومن نافل القول، إن دول الجوار العراقي لا سيما السعودية وتركيا ترفضان التسليم بأن تكون إيران هي الأقدر على ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي، وهما تعملان معاً على أكثر من صعيد من أجل خلط الأوراق والمعادلات داخل العراق، بما يؤدي الى احتواء نفوذ ايران في العراق، ورسم معادلة سياسية تسمح باعادة التوازن أو إنتاج تركيبة سلطة جديدة لمصلحتهما، وتركيا والسعودية تدركان أيضاً، أن العراق بات اليوم يشكل العمق الاستراتيجي الفعلي لسوريا، وله الدور الأكثر فاعلية على التأثير في مسار أزمتها، كما إن انتقال العراق الى محور المقاومة والممانعة من شأنه أن يعزز هذا المحور بثقل جيو استراتيجي فائق الأهمية اضافة الى الوصلة الاستراتيجية مع هذا المحور.
ج ـ الأزمة النووية ـ الايرانية التي عادت تطرق بقوة أبواب الشرق الأوسط، والمفتوحة على احتمالات شتى من التصعيد الذي من الصعب التكهن بنتائجه أو مداه.
هذه الأزمات المتفجرة المعطوفة بدورها على شبكة معقدة من صراع المكاسب والمصالح البعيدة المدى والمتنوعة الأشكال والصيغ، تشير الى أن العام المقبل سيكون استمراراً للعام الحالي، خصوصاً فيما يتعلق بمسار الاشتباك الدولي ـ الاقليمي ـ المحلي الذي يحكمه، والمفتوح بدوره على آفاق محتملة من التصعيد والمواجهات التي قد تأخذ بدورها أشكالاً مختلفة.