ارشيف من :آراء وتحليلات

ايران والغرب: صراع جيو ـ سياسي واستراتيجي تتجاوز آثاره المنطقة إلى العالم

ايران والغرب: صراع جيو ـ سياسي واستراتيجي تتجاوز آثاره المنطقة إلى العالم
بلغ مسار المواجهة المفتوحة بين الجمهوريّة الاسلامية والتحالف الغربي ـ الصهيوني مؤخراً نقطة بالغة التوتر والتصعيد، تعكس دقة الملفات، وعظمة المصالح الحيويّة والاستراتيجية التي هي محور الاشتباك بين مجمل هذه الأطراف، والبارز منها، هو:

ـ الملف النووي ـ الإيراني الذي يشكل حساسية مفرطة للكيان الصهيوني فيما يتصل بأمنه الاستراتيجي في المنطقة، حيث يحرص هذا الكيان على أن يبقى الدولة النووية الوحيدة في المنطقة بما يُكسبه ميزاتٍ ردعية نوعية من جهة، وميزاتٍ نوعيةً أيضاً في ميزان التفوق العسكري، خصوصاً في ظل انعدام ميزان التفوق العسكري التقليدي لغير مصلحته من المنظور العام لأي مواجهة مستقبلية، ويعيد نجاح حركات المقاومة في وضع قيود قوية للقوة العسكرية المطلقة لهذا الكيان.

ولقد أظهرت المقاربات الأميركية تباينات واضحة مع المقاربات الإسرائيلية في أكثر من مرحلة، حيث صدرت مواقف أميركية واضحة تكشف عن استعداد واشنطن لهضم إيران النووية على النقيض تماماً من الكيان الاسرائيلي.

هذا التباين عبر عن نفسه مرات أيضاً في كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني، حيث كان الكيان الإسرائيلي يظهر نزوعاً متزايداً لحسم هذا الملف عسكرياً، في حين تفضل واشنطن مواجهته بأساليب القوة الناعمة، الأمر الذي تطلب مؤخراً حواراً معمقاً، أميركياً ـ اسرائيلياً تركز حول ماهية الخطوط الحمراء التي إذا ما تجاوزتها طهران تقتضي رداً عسكرياً.

واذا كانت نتيجة هذا الحوار غير واضحة حتى الآن، فإن المرتجى المباشر منها على الأقل هو التوافق على ابقاء الخيار العسكري حاضراً على الطاولة، بما يحفظ لكل من واشنطن وتل أبيب ورقة ضغط وردع أساسية، ما يعني بدوره عدم اعطاء طهران أي شعور بالأمن إزاء استخدام الخيار العسكري.

ـ الملفات الخاصة بموقع ودور ايران الجيوبوليتيكي والجيواستراتيجي في المنطقة، هذا الدور الذي بات يؤثر بشكل نوعي واستراتيجي على منظومة المصالح الاستراتيجية لأميركا في المنطقة، وعلى البيئة الإستراتيجية الأمنية للكيان الاسرائيلي، هذه البيئة الآخذة في التضعضع والتفكك إلى حد كبير، ما يحمل تحديات مصيرية على هذا الكيان.

والكلام عن دور إيران يعني الكلام عن موقعها المركزي في منظومة محور المواجهة والمقاومة في المنطقة، والذي تعمق مؤخراً بعيد الإنسحاب الأميركي من العراق. ما يزيد من مستوى التحدي الإيراني للولايات المتحدة هو النتائج والتداعيات المرجوة من الاشتباك الدائر بينهما لا على صورة المنطقة فحسب، وإنما فيما يتعلق بإعادة تأسيس نظام دولي جديد، يرتكز على أقطاب متعددة تلعب فيها التكتلات الإقليمية أدواراً حاسمة.

ـ ما زاد أكثر من حدة الاشتباك الغربي ـ الإيراني مؤخراً هو التالي:

أ ـ الانسحاب الأميركي من العراق الذي عزز أكثر من فرص إيران لتدعيم خط المقاومة والممانعة في المنطقة، خصوصاً بعدما بدأ العراق يُظهر مؤشرات قوية في هذا الاتجاه، كما عزز هذا الانسحاب من مشاعر التهديد والخطر لدى أطراف داخل العراق وخارجه لا سيما لدى النظام السعودي والكيان الاسرائيلي.

ب ـ دخول ايران بقوة على خط تعطيل مفاعيل المؤامرة التي تستهدف موقع ودور سوريا في محور المقاومة والممانعة.

ج ـ الانتفاضات التي يشهدها العالم العربي في أكثر من منطقة وبلد، وتضعه في مسار تغييري غير مسبوق، ولا يملك الغرب تصوراً يقينياً عن آفاقه، وبالتالي، هو يقف على قدرٍ متساوٍ مع محور المقاومة.

د ـ الوضع المضطرب في منظومة دول الخليج التي تشكل ركيزة المصالح النفطية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، والخشيّة من انفلات الأمور هناك لغير مصلحتها، وبما يجعل إيران لاعتبارات متنوعة الأقدر على استثمارها لمصلحتها.

هـ ـ الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه أوروبا والولايات المتحدة، وعجزهما عن التدخل المباشر، إضافة الى دخولهما معمعة التحضير للانتخابات الرئاسية، ما يقتضي في مجمله شراء الوقت بانتظار تبلور أوضاع مريحة أكثر، والخروج من هذه الاستحقاقات.

و ـ التحضير الاميركي للانسحاب من افغانستان، هذا الانسحاب الذي تبدو فيه إيران مهيأة أكثر من غيرها لملء فراغه أيضاً.

بناءً عليه، فإن حجم المصالح الأميركية المهددة من قبل إيران كبير ومن النوع الثقيل، كما إن مساحة الاشتباك الدائر بين الاثنين تتمدد على خريطة بالغة الأهمية من الناحية الاستراتيجية، حيث تشمل تقريباً كل خريطة الشرق الأوسط.

في هذا الإطار ـ واستناداً إلى ان الولايات المتحدة ليست في وارد الذهاب الى حرب عسكرية مباشرة ـ عمدت واشنطن الى استراتيجية مواجهة مركّبة، أبرز عناصرها:

ـ استهداف سوريا من خلال حرب استنزاف مركبة لانتزاعها من محور المقاومة.

ـ استهداف العراق من خلال التحضير لعملية خلط أوراق للتوازنات السياسية فيه وبالاتجاه الذي يحتوي ما يعتبره نفوذاً لايران، وبما يخدم مصالحها ومصالح حليفها السعودي.

ـ العمل على احتواء الانتفاضات العربية، وعكس مساراتها المنطقية، بما يقطع الطريق على أي فرص في إطار التعاون والتكامل بين السلطات الوليدة ومحور المقاومة والممانعة.

ـ استهداف ايران مباشرة متوسلة الى ذلك كل أساليب الحرب الناعمة من سياسية وديبلوماسية واعلامية وحرب نفسية واقتصادية ومالية، إلا أن البارز مؤخراً هو التبني الغربي للخيار الاسرائيلي والمتمثل باجراءات تشل الاقتصاد الايراني، من خلال استهداف قطاع النفط، واستهداف المصرف المركزي الايراني.

هذا الاستهداف يراد منه انجاز أكثر من توقع:

أ ـ ارباك المركز الاستراتيجي الأساس لمحور المقاومة والممانعة في المنطقة.

ب ـ اضعاف قدرات إيران الإسنادية لحلفائها في المنطقة.

ج ـ التأثير سلباً على مسار تقدم الانجازات النوعية المختلفة لايران في مختلف المجالات العلمية والعسكرية والاقتصادية.

د ـ ايجاد مفاعيل اجتماعية تكون انعكاساً للأوضاع الاقتصادية والمالية، وبما يفتح الطريق لإعادة تحريك الانقسامات داخل ايران، خصوصاً على أبواب الانتخابات في الربيع المقبل.

من الواضح أن ايران لا تقف في العراق، وهي تملك خيارات وبدائل واسعة، أخذت وقتها في التجهز لها ادراكاً منها لحقيقة الصراع مع الولايات المتحدة، ولذا، فهي عمدت الى مجموعة من الأمور أبرزها:

ـ احباط المؤامرات الأميركية في سوريا والعراق وغيرها من الأمكنة من خلال ممارسة دور ايجابي متنوع.

ـ رفع درجة الجهوزية العسكرية الى حدودها القصوى، وإظهار الاستعداد للوصول بالمواجهة ليس بالسير على حوافّ الوديان، وانما لما هو أكثر من ذلك.

ـ ايجاد بدائل تعطل الآثار الاقتصادية والمالية للعقوبات الأميركية والأوروبية من خلال تنويع سلة عملاتها الصعبة، ومن خلال الوصول الى الاكتفاء الذاتي في إنتاج مادة البنزين، ومن خلال إيجاد أسواق بديلة للأسواق الأوروبية في مداها الحيوي ـ الآسيوي والإفريقي، ما يعزز من تشابك المصالح الإقليمية، وتحويلها إلى تكتلات وازنة في أي منظومة دولية جديدة.

ـ الانفتاح الواسع على الانتفاضات الشعبية في المنطقة وعلى الحركات الرئيسة التي تشكل رافعة لها، وإظهار كل استعداد طيب لإقامة اتصالات وعلاقات تعاونية وتكاملية.

ـ الاستمرار في سياسة دعم حركات المقاومة في المنطقة.

ـ الاعتماد على علاقات دولية متنامية مع الصين وروسيا ومجموعة البريكس.

هذا الى جانب أوراق أخرى تبقى مستورة.

كل ما تقدم، يشير الى أن مسار المواجهة الغربية ـ الصهيونية المدعومة من بعض الأنظمة الخليجية مع إيران سيحافظ على توتره، في ظل انسداد أفق أي تسويات ممكنة بين هذه الأطراف، الأمر الذي قد ينزلق في أي وقت الى مواجهات ساخنة تعبّر عن نفسها في أكثر من ساحة، إلا اذا تجاوزت الأمور حداً يدفع بالتطورات نحو مواجهة شاملة لكسر التوازنات، أو اذا انكسرت هذه التوازنات بفعل تطورات حاسمة يتطلب جبرها رداً شاملاً.

ومن الواضح، أن كل هذا مردّه الى طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة والعالم معاً، والذي لن ينشر استقراراً جديداً إلا من ضمن اتفاقات كبيرة، لم يعد بمقدور الدول الكبرى حسمها وحدها.

2012-01-06