ارشيف من :آراء وتحليلات

استهداف الأربعين... قراءة من زوايا متعددة

استهداف الأربعين... قراءة من زوايا متعددة
بغداد ـ عادل الجبوري

لا يمكن قراءة سلسلة العمليات الإرهابية التي استهدفت مواكب الزوار المتوجهين الى مدينة كربلاء المقدسة في عدد من المناطق، جنوبي ووسط العراق، بمعزل عن جملة حقائق ووقائع سياسية ـ وحتى تاريخية ومذهبية ـ ربما تتجاوز حدود الجغرافية العراقية وتفاعلاتها.

والتفجيرات التي حصلت بسيارات مفخخة وأحزمة ناسفة يومي الخميس والجمعة الماضيين في بغداد وذي قار وديالى وكربلاء وبابل ومدن أخرى، لم تخرج عن هدف ظاهري واضح، ألا وهو ثني الناس عن التوجه لزيارة الإمام الحسين(ع) وإحياء ذكرى أربعينية استشهاده، وبالتالي إفشال هذا المهرجان المليوني السنوي الكبير.

قد ينطوي السعي لتحقيق مثل ذلك الهدف على قدر كبير من السذاجة وقصور التفكير، وعدم قراءة التاريخ البعيد وكذلك القريب، قراءة موضوعية عقلانية تتعدى الكثير من العقد والعصبيات والاحقاد.

اربعة عشر قرنا من الزمان شهدت مختلف محاولات طمس معالم الثورة الحسينية العظيمة، من قبل الانظمة والحكومات والجهات المعادية للدين الاسلامي المحمدي الاصيل ولأهل البيت عليهم السلام، وكلها باءت بالفشل ولم يجنِ منها اصحابها سوى الخزي والعار والخيبة والخذلان.

"اي بؤس ذلك الذي ابتلي به من يتصورون ان عدة عبوات ناسفة وسيارات مفخخة يمكن ان توقف الزحف المليوني الحسيني صوب كربلاء التضحية والفداء.. كيف يمكن أن يتوقف ذلك الزحف المليوني العظيم وشعاره الأبدي هو .. (لو قطعوا ارجلنا واليدين نأتيك زحفا سيدي ياحسين)..؟".. وهذا ما يردده الكثيرون.

ولعل مصاديق هذا الشعار ماثلة امامنا في كل يوم بأوضح الصور وأجلاها وأنصعها.

هذه هي القراءة الكلية لطبيعة ودلالات استهداف زوار الإمام الحسين قبل أيام قلائل، وهي لا تختلف عن قراءة طبيعة ودلالات ما حصل العام الماضي والأعوام التي سبقته.

والى جانب هذه القراءة الكلية الاجمالية، نحتاج الى قراءة تفصيلية نوعا ما ومن زوايا متعددة، للوقوف على الظروف والملابسات والأجواء التي حصلت فيها العمليات الإرهابية الاخيرة، والتي اسفرت عن استشهاد واصابة حوالي مئتي شخص من اعمار مختلفة.

وهنا لا بد أن نشير الى أنه بصرف النظر عن مستوى حرفية ومهنية القوات العسكرية والأجهزة الأمنية، فإن مسألة ضبط ايقاعات الوضع الأمني بالكامل على مساحات واسعة جداً، ولأعداد هائلة من الناس، وخارطة تحرك متشعبة وشائكة الى حد كبير، يعد امراً عسيراً، ان لم يكن مستحيلا.

فزرع عبوات ناسفة على بعض الطرق الرئيسية والفرعية أو تفجير سيارات مفخخة وأحزمة ناسفة، يكون متاحا بمقدار أكبر بكثير مما لو كان المطلوب تأمين حماية لمكان مشخص ونشاط معين وعدد محدد ـ او يمكن تخمينه ـ للحاضرين والمشاركين.

بيد ان ذلك لا يلغي ولا ينفي وجود الكثير من الاشكاليات، بصورة مواقف وسلوكيات وممارسات واصطفافات سياسية ـ داخلية وخارجية ـ تنعكس بالدرجة الأساس على الاوضاع الامنية والحياتية، ويبرز ذلك بوضوح أكبر في المناسبات ذات الأبعاد والدلالات الدينية.

وحتى تكون الصورة أكثر وضوحا، فإنه من المفيد ـ بل من الضروري ـ الاشارة الى جملة من القضايا التي تعكس جانباً من المواقف والسلوكيات والممارسات والاصطفافات:

اولا: ما يتفق عليه معظم السياسيين العراقيين على اختلاف توجهاتهم، وما بات يفهمه الشارع العراقي الى أبعد الحدود هو ان التأزم والاحتقان السياسي لا بد ان ينسحب على أمن الناس سلباً، بصورة عمليات ارهابية تستهدف في الغالب تجمعات المدنيين أو مؤسسات الدولة ذات الطابع الخدمي، وفي أفضل الأحوال بعض المقرات الأمنية والعسكرية، وتحديداً مراكز التطوع.

واللافت للانتباه أنه في الوقت الذي ترتفع فيه وتيرة الخلافات والاحتقانات بين الفرقاء السياسيين، يضع الكثير من العراقيين ايديهم على قلوبهم، ويتملكهم الخوف والقلق من وقوع المحذور، ألا وهو العمليات الارهابية.

وهذا ما هو حاصل حاليا، فهناك أزمة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ببعديها القضائي والسياسي، وأزمة ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي، والقائمة العراقية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق اياد علاوي، وهي في واقعها عبارة عن عدة أزمات تحركها وتوجه بوصلتها صراعات ومنافسات وعقد ضيقة وانعدام الثقة، والى حد كبير "أجندات" خارجية.

ثانيا: وارتباطا بالنقطة الاولى، فإن الخلافات والاحتقانات السياسية توجد تكتلات وولاءات متعددة ومتناقضة في " اجنداتها" داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية فضلا عن السياسية، تقترن بتفشي ظاهرة الفساد الإداري والمالي، وهذا ما يتيح للجماعات الإرهابية تجنيد بعض المنتسبين لتلك المؤسسات عبر أساليب الترهيب والترغيب، وبالتالي تحقيق اختراقات خطيرة تكون مدخلا لتنفيذ الأعمال الإرهابية وتهديد كيان الدولة برمتها.

ثالثا: لا يمكن نفي وجود خيوط تربط بين انسحاب القوات الأميركية من العراق وحدوث العمليات الإرهابية، أياً كانت طبيعتها.

فهناك جهات حاولت جاهدة إبقاء القوات الأميركية وعرقلة إتمام انسحابها، وذلك لأنها ترى أنها تمثل مظلة حماية لها، وهي في هذه المرحلة قد تسعى الى خلط الأوراق وإرباك الأمور، لتقول بصورة غير مباشرة إن وجود الأميركيين كان ضروريا ولا بد منه، وفي ذات الوقت كانت هناك جهات أخرى تتخذ من وجود الاميركيين حجة وذريعة لتنفيذ "اجندات" خارجية، تهدف الى إذكاء الفتنة الطائفية بين العراقيين، وإشعال حرب أهلية عناوينها طائفية ـ مذهبية ـ دينية ـ قومية، وهي بعد أن وجدت انها عاجزة عن تنفيذ تلك "الاجندات"، واصبح الوجود الأميركي في خبر كان، راحت تحرّض وتدعو الى ما أسمته "إدامة الجهاد ضد حكومة الشيعة في العراق"، وهذا ما جاء على لسان أحد قادة تنظيم القاعدة التونسيين. ناهيك عن أن مسؤولين وخبراء سياسيين وأمنيين يتحدثون عن امكانية واحتمال ان تحرك واشنطن بعض أدواتها في الداخل لارباك الأوضاع حتى تتهيأ لها الأرضيات والظروف المناسبة للحضور الدائم في المشهد العراقي العام، إن لم يكن عسكرياً، فسياسياً ودبلوماسياً وامنياً، وحتى توصل رسالة الى العراقيين تقول لهم فيها "انكم ستبقون بحاجة الينا".

رابعا: ولعله من اليسير تلمس اتجاهات ومسارات "الأجندات" الخارجية، حينما تقابل العمليات الإرهابية في العراق ـ وخصوصا ضد زوار الامام الحسين عليه السلام ـ بصمت عربي وإقليمي ودولي مطبق ـ ما خلا استثناءات قليلة لا تعكس مواقف وتوجهات رسمية ـ في حين نلاحظ ان عملا ارهابيا واحداً في مكان آخر لا يسقط جراءه عُشر ما يسقط جراء العمليات الارهابية في العراق، يحظى بتغطية إعلامية وبردود افعال سياسية كبيرة من حكومات وأنظمة سياسية مختلفة، ليس هذا فحسب، بل ان وسائل اعلامية، بدلا من أن تقوم بتخصيص حيز مناسب لتغطية وقائع مسيرة الزحف المليوني نحو الامام الحسين والعمليات الارهابية، تتتبنى حملات تشويه مبرمجة وموجهة مفادها ان مدينة كربلاء اصبحت بؤرة للاتجار بالمخدرات، وان من يأتون اليها بذريعة الزيارة انما يأتون اما لبيع المخدرات او لشرائها!

خامسا: تشير التوقعات الأولية الى ان عدد الزوار بمناسبة أربعينية الامام الحسين عليه السلام سيصل هذا العام الى ستة عشر مليون شخص، علما أن عدد زوار العام الماضي بلغ اربعة عشر مليون شخص، وأمامنا خمسة ايام على حلول الذكرى، وهذا يعني ان محاولات استهداف الزوار ستكون محمومة وستتواصل، ومن غير المستبعد ان يسقط المزيد من الشهداء والجرحى في صفوف الزوار، وفي ذات الوقت تبدو واضحة التحضيرات والاحترازات والاجراءات الامنية الاستثنائية للحكومة، وهذا شيء جيد وضروري جداً، بيد أنه من الصعب جدا ان يكبح بالكامل جماح العوامل الدافعة والمحركة والمسببة لإزهاق الأرواح وسفك الدماء.
2012-01-10