ارشيف من :آراء وتحليلات

رسائل نزهان وعثمان

رسائل نزهان وعثمان
بغداد ـ عادل الجبوري

رسائل نزهان وعثمانلم يكن الملازم نزهان صالح حسين الجبوري ذو الثلاثين ربيعاً الذي ينحدر من قرية الشريعة شمال ناحية الزاب الأسفل بقضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك شخصاً معروفاً، فحاله حال مئات أو ألاف الجنود والضباط الذين يمارسون عملهم كمنتسبين في الجيش العراقي، وغيرهم من عموم الناس.

لكن صبيحة الخميس الماضي، الخامس من شهر كانون الثاني/يناير الجاري أصبح الملازم نزهان أشهر من نار على علم كما يقولون بعدما ضحى بحياته من أجل المحافظة على حياة زوار الإمام الحسين(ع) في ناحية البطحاء التابعة لمحافظة ذي قار (الناصرية)، حينما احتضن انتحاريا كان يروم تفجير نفسه وسط جموع الزوار عند نقطة تفتيش على الطريق بين الناصرية والبطحاء، ولكن ذلك لم يمنع من تفجر الحزام الناسف الذي كان يرتديه الانتحاري لأنه على ما يبدو كان مبرمجاً على جهاز تحكم عن بعد.

وما هي الا لحظات قليلة حتى تحول الملازم نزهان ومعه جندي آخر من محافظة ديالى اسمه علي أحمد الى اشلاء متناثرة إضافة الى عشرات الزوار الذين سقطوا بين شهيد وجريح.

ومنذ تلك اللحظات بات اسم نزهان الجبوري يتردد على كل لسان.. ولعل ما أعطى بعدا آخر للقضية هو قيام شخص من أبناء المذهب السني في العراق بالتضحية من أجل حماية أرواح أناس ينتمون الى المذهب الشيعي، وهم في طريقهم الى كربلاء سيراً على الأقدام لزيارة مقام الامام الحسين (عليه السلام) في ذكرى اربعينية استشهاده قبل الف وثلاثمئة واثنين وسبعين عاما. ولم يعد هناك من يجهل نزهان الجبوري فكل القنوات الفضائية والصحف والاذاعات راحت تتحدث عنه بإسهاب في نشراتها الخبرية وبرامجها السياسية، وبالتالي بات بطلا حقيقيا في نظر الكثيرين، وهو كذلك بالفعل.

ويقول زميله الملازم اول طبيب حمزة حسين الذي أصيب في الانفجار، وهو يروي بعضا مما شاهده، إنه بينما كان الملازم نزهان الجبوري يمارس واجبه في تأمين طريق الزائرين المتوجهين الى مدينة كربلاء المقدسة سيراً على الأقدام، واذا بشكوك تساوره بوجود حركة غريبة بين صفوفهم، عندما حاول إرهابي يرتدي الزي العسكري اقتحام حشد كبير منهم، وما كان أمام الضابط الا إحتضان الارهابي، وإحكام قبضته عليه، لكن لم تمض سوى لحظات حتى دوى في المكان صوت انفجار عنيف تبين أنه ناجم عن تفجير حزام ناسف كان يرتديه المجرم، ليوقع العشرات من الزوار المدنيين بين شهيد وجريح.

رسائل نزهان وعثمان

ويضيف الملازم اول الطبيب حمزة، ان الملازم نزهان، وهو في العقد الثالث، كان قد عاد من إجازته الاعتيادية قبل أيام، والتي قضاها مع عائلته المكونة من زوجة وطفلين، اضافة الى والديه، وكان قبل وقوع الحادث يتحدث عبر جهاز الهاتف النقال الى والده ويطمئنه على وضعه، وكذلك تحدث مع ابنته الصغيرة ووعدها بأنه سيعود الى البيت قريباً وهو يحمل لها هدايا وألعابا ولم يكن يعرف أن ساعته قد اقتربت، وما هي سوى دقائق حتى اختلط دمه بدماء زوار الامام الحسين (عليه السلام).
والد، ووالدة الشهيد نزهان، السيدة يسرى الجبوري، عبّرا عن فخرهما واعتزازهما لما قام به ولدهما من تضحية، واعتبرا "ان ذلك أمر طبيعي لكل من يريد أن يؤدي واجبه تجاه وطنه وأبناء شعبه بصدق وإخلاص بعيدا عن حدود الطائفة والقومية والديانة والمحافظة".

نفس الشيء اكده شيخ عشيرة البوغزاة التابعة لقبيلة الجبور عيسى محسن السبيل حينما "قال ان العراقيين موحدون وان تضحية الملازم نزهان الجبوري دليل على وحدتهم وتكاتفهم وتآزرهم".

الصورة البطولية التي انتهت بها حياة الملازم نزهان اعادت الى الاذهان الصورة البطولية التي رسمها ذلك الشاب الذي لم يتجاوز عمره الثمانية عشر عاما حينما وقعت كارثة جسر الائمة الرابط بين منطقتي الاعظمية السنية والكاظمية الشيعية في العاصمة العراقية بغداد قبل ستة اعوام، وتحديدا، في الحادي والثلاثين من شهر اب/اغسطس 2005، اي في خضم ذروة الصدام الطائفي، اذ كانت الحشود المتوجهة صوب مرقد الامام موسى الكاظم (عليه السلام) تتزاحم على الجسر، وفي هذا الوقت صرخ ارهابي بأن هناك عبوات ناسفة على الجسر فما كان من الاف الناس بينهم اطفال ونساء وشيوخ الا ان يلقوا بأنفسهم في نهر دجلة، ناهيك عن الذين لقوا حتفهم بسبب التدافع الشديد، وفي ذلك الموقف الحساس والخطير ما كان من الشاب عثمان العبيدي، ابن منطقة الاعظمية الا ان قفز في النهر سريعا ومن دون تردد لينقذ ما يمكنه انقاذه من الارواح، وفعلا انقذ عددا غير قليل منهم، وبعد ان استنفد كل طاقته خارت قواه ورحل الى الباري عز وجل شهيداً، ليدوّن اسمه في سجل الابطال.

رسائل نزهان وعثمان

ومثلما كان عثمان العبيدي يعرف ان من سيخاطر بحياته من اجلهم هم زوار الامام الكاظم(ع) وهم ينتمون الى مذهب اخر غير المذهب الذي ينتمي اليه، فإن الشهيد نزهان ذلك القادم من كركوك، كان يدرك انه يمكن ان يفقد حياته من اجل ان يحافظ على ارواح زوار الامام الحسين (عليه السلام).

وفي الواقع ان عثمان العبيدي ونزهان الجبوري يمثلان صورتين متماثلتين تعبران بصدق وتعكسان بقوة ووضوح حقيقة المجتمع العراقي، وتثبتان ان محاولات و"أجندات" زرع الفتنة والشقاق، وإشعال الحروب والصراعات بين أبنائه مصيرها الفشل.

واذا كان المواطنون العراقيون يثبتون في كل يوم تلك الحقيقة، فإن على الساسة المعنيين بزمام الامور ان يثبتوها عبر الاقوال لا الافعال فحسب.

ومن الطبيعي ومن المفروض ان يحظى الملازم نزهان وكذلك عثمان بأقصى درجات التكريم المادي والمعنوي.. بيد ان الاهم من كل ذلك هو انه ينبغي على الجميع فهم واستيعاب وتقدير حجم وأبعاد ودلالات تضحياتهما.. وعلى الجميع ان يتوقفوا ويتأملوا طويلا في الرسائل التي بعث ويبعث بها اشخاص مثل عثمان ونزهان.. هما وإن كانا عراقيين، إلا أن رسائلهما غير موجهة الى العراقيين فحسب، بل الى كل المسلمين، وأكثر من ذلك الى عموم الانسانية.
2012-01-12