ارشيف من :آراء وتحليلات
سوريا على عتبة الولادة الجديدة
لؤي توفيق حسن*
"أَبْغُضُ ضِيْقَ الأفق أكثرَ بكثير من الخطيئة"
(فريدريك نيتشه)
عند الحديث عما يجري في سوريا كثيراً ما يعترضنا السؤال التبسيطي: هل انت مع النظام أم مع المعارضة؟ أجيب في العادة: وعن أي نظام تتكلمون؟!
ذلك لأن النظام السوري الذي ولد في آذار/ مارس 1963 بات من الماضي القريب؛ وقد بدأ أفوله منذ حوالي السنة، وفي نفس الشهر من عام 2011 ـ يا للصدفة!! ـ.
نعم هذه هي الحقيقة وقد صرح بها فيما بعد رأس الدولة الدكتور بشار الأسد في خطابه الأخير حيث ذكر في معرض الحديث عن حكومة الوفاق الوطني القادمة أنها "حكومة الوطن وليست حكومة حزب..". وإذا ربطنا هذا بما جاء من قبل وفي نفس الخطاب عن" الدستور الجديد.. وقانون الاحزاب"، والتسليم ببروز "قوى سياسية جديدة" لأدركنا أننا على اعتاب ولادةٍ لسوريا جديدة، وبصك رسمي خلافاً للمألوف؛ وبصرف النظر عن صعوبة الولادة التي يريدها "قيصرية" بعض المتهورين الذين لعلهم من أصحاب النوايا الطيبة؛ فيما الآخرون تحت ذات المُسمى يبتغون منها مقتلةً لسوريا.
من الصحيح أن النظام القديم بلغ مرحلة متقدمة من اليباس لكنه لم يبلغ مرحلة العقم؛ نقول هذا إنصافاً للحقيقة؛ وأنا هنا من خارج البعث شاهد عيان على حماسة العديد من البعثيين للتغيير وللإصلاح وللديمقراطية ولتحديث الدولة وإطلاق الحريات على أنواعها. حماسة جرت على ألسنة قياديين من كل المستويات ومنذ أكثر من عقد مضى، وذلك انطلاقاً من قناعاتهم بأن العصر قد تغير، وأن أرضية البناء الجديد للدولة الحديثة باتت جاهزة بعد أن انجز النظام القديم وظيفته التاريخية في اعادة تشكيل الحياة السورية ـ بالمعنى الشامل للكلمة ـ من خارج موروثها العثماني ـ المملوكي وعلى أسس موضوعية قوامها ركنان: الأول: اقتصاد منتج شكّل السمة العامة للاقتصاد السوري حتى عام 2000 على الاقل، والركن الثاني: تقليص الفوارق بين المركز والأطراف ـ وبوجه خاص الريف ـ ما ساهم في تقليص الفوارق الطبقية من جهة، وفي توسيع رقعة التعليم من جهة ثانية، ما أعطى الفرصة لإعادة تشكيل المجتمع السوري على قواعد جديدة.
طبعاً لا تخفى على المدقق العلاقة الجدلية بين الركن الأول والثاني في تحويل سوريا الى دولة "الكفاية" بالحد الأدنى. وبالتالي الى دولة "الرعاية"؛ ترافق مع استقرار سياسي عصَبُه جيش متماسك أكد صلابة مناعته في وجه المغريات، وامام الزلازل التي تعصف بسوريا منذ عشرة أشهر. هذا بحد ذاته إنجاز تاريخي لمن يعرف تفاصيل الحياة السورية في الخمسينيات حين امسى الجيش يومها في دوامة استقطابات خارجية أدت فيما أدت الى فوضى الانقلابات العسكرية.
لكن الأمر فيما بعد كان قد تجاوز هذه الظاهرة ليبلغ ازمة كيانية وصلت الى ذروتها عام 1957؛ حيث السياسيون منقسمون على انفسهم من جهة، والجيش صاحب الكلمة العليا في الدولة منقسم هو الآخر على نفسه، وقد بات كما وصفه باتريك سيل بدقة: "مجموعة من الأجنحة المتصارعة كل منها يخشى الآخر أكثر من أية قوة خارجية"؛ ما أثار الخشية من "انحلال" المجتمع السوري على حد تعبيره.
استطراداً وللمزيد من الإضاءة، فإن أحد أهم دوافع الوحدة مع مصر مطلع 1958 أنها كانت مخرجاً لإنقاذ سوريا من هذا المصير الذي اقلق الجميع آنذاك؛ وهو ما عبر عنه وفد ضباط قيادة الجيش السوري الذين ذهبوا الى القاهرة عارضين بإلحاح الوحدة على عبد الناصر مجمعين على شيء واحد فقط هو قيادته. يومها قالوا له ما يغنينا عن المزيد من وصف يأسهم: "افعل بنا ما تريد.. أنقذنا فقط من السياسيين ومن أنفسنا"!.
بعد هذا قد يجد القارئ أننا لم نبالغ عندما اعتبرنا إيجاد جيش متماسك بمثابة الإنجاز التاريخي للنظام القديم، وهو ما سمح لسوريا بأن تصبح لاعباً بدل ان تكون ملعباً ميدانه الانقلابات العسكرية تأتي بها هذه السفارة أو تلك!!.
من الصحيح ان بلوغ ما سبق دفع ثمنه الشعب السوري غالياً من حقه في الرفاه والحريات الديمقراطية، وهو حال معظم الشعوب التي تعيش في ظل أنظمة موجهة. لكن يبقى الأخطر من تداعيات هذه الحال هو الخروج منها بسرعة، وبزاوية انعطاف حادة. لنضرب على ذلك مثالاً حياً من روسيا التي ثار شعبها اوائل القرن الماضي ضد القيصرية، ثمَّ وبدافع من البؤس واليأس قفز فوق كل ممكن الى الخيار الشيوعي منجذباً لشعاره "الخبز والحرية"، فنال الخبز، وخسر الحرية!. ثمَّ ثار ليستعيد الاخيرة بعد عقود وفي عملية انقلابية اعتباطية فنال الحرية ليخسر الخبز!.
لكن إذا استطاعت دولة عريقة، وعظمى، كروسيا امتصاص ارتدادات الصدمة جراء انهيار امبراطوريتها "السوفياتية" فإنه سيكون من العسير جداً على سوريا تحمّل تحولات سريعة!. هذا في الشكل، فكيف إذا كان الواقع يشي بمضامين مقلقة حيث البدائل المطروحة وعلى رأسها "المجلس الوطني السوري" هي في المبدأ غير جديرة ولا يمكن الركون لخبراتها ولا لتقديراتها، ناهيك عن امكانياتها، وهي ليست أكثر من تكوينات ظرفية مفككة الاوصال!.. مفككة بما يذكرنا بحال قيادة الجيش السوري في الخمسينيات كما سبق الوصف، ولكن مع فوارق هائلة في نوعية الأشخاص، ونظافة طويتها. إذ من الظلم الكبير المقارنة بين من اختار الوحدة مع قطر عربي لحماية الكيان السوري؛ وبين من اختار المغامرة بالكيان للتخلص من النظام. ولا مجال للمقارنة بين صفاء ونقاء طوية من ذهب الى مارد عربي مثل عبد الناصر وبين من ذهب الى قزمٍ من الفرنجة مثل ساركوزي، او الى إِمَّعَات في المشيخات العربية!!.
والحقيقة كما نعتقدها، ونقولها بعقل بارد بعيداً عن الرغبات والأهواء، إن أي انعطاف سريع في الواقع السوري سيواجه بالتعبير الفيزيائي بقوة عطالة نابذة قد تعيدنا الى المربع الأول: أزمة الكيان التي سطعت في الخمسينيات. لكن سوريا هربت منها الى الأمام يوم ذاك بدافع الشعور القومي العربي السائد الذي استوعب الولاءات الجهوية او الإثنية الضيقة ؛هذا كله ومع وجود عبد الناصر الذي شكل حبل النجاة. فماذا عن الآن؟!.
منعاً للالتباس ان محاذرة الانتقال السريع لا تعني قط التحول البطيء. هذا للتوضيح، ولقطع الطريق على مَن ما زال يحلم يإحياء الموتى من قبورهم!، وتحت حجة أن الشعب السوري لم يرتقِ بعد لمستوى الحياة الديمقراطية. المقصود هنا بالتحديد أن السوريين قد دفعوا ضريبة التغيير، عليهم ان يحسنوا قطاف ثمارها بأقل الخسائر. أما من يريد قتل الناطور وليس أكل العنب فإن مواجهته ينبغي أن تكون جزءاً من "العقد الاجتماعي" للنظام الجديد. لذلك طالبنا منذ أشهر بضرورة ان يبصر هذا الأخير النور من غير تردد.
*كاتب من لبنان