ارشيف من :آراء وتحليلات

ماذا تريد أنقرة من بغداد بالضبط؟

ماذا تريد أنقرة من بغداد بالضبط؟
بغداد ـ عادل الجبوري

للوهلة الاولى تبدو الأزمة الأخيرة بين بغداد وأنقرة عابرة كما يعتقد البعض، ومثلما هو الحال مع أزمات سابقة بين الطرفين، وأزمات اخرى بين بغداد وعواصم إقليمية وعربية معينة، وأزمات مماثلة أو مشابهة لها في عموم المحيط الاقليمي، لا يمكن ان تكتمل صورة الأزمة إلا بالتوقف عند كل جوانبها والإحاطة بكل زواياها.

الوجود العسكري لحزب العمال الكردستاني التركي (P.K.K)، والخلافات حول تقاسم مياه نهري دجلة والفرات، وقضايا أخرى هي في الواقع أزمات ونقاط خلافية قديمة ـ جديدة، وغالبا ما تخضع للشد والجذب بين الطرفين، بيد أن سقف ذلك الشد والجذب بقي طوال الوقت تحت السيطرة والتحكم الى حد كبير.

ما الذي تغير الآن حتى تنفتح "الازمة" بين بغداد وأنقرة على خيارات أبسط ما يمكن ان يقال عنها إنها سيئة وخطيرة بالنسبة لبلدين جارين تربطهما علاقات سياسية وأمنية واقتصادية مشتركة، ومن غير الممكن لأي منهما التفريط بمصالحه مع الآخر لمد جسور أو تحقيق مكاسب مع طرف ثالث، إقليميا كان هذا الطرف ام دوليا؟.

التصعيد التركي الأخير، ارتبط في جانب منه برغبة أنقرة ببقاء القوات الأميركية في العراق لوقت آخر وعدم انسحابها بالكامل نهاية العام الماضي، وارتبط كذلك بملف نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، على خلفية اتهامه بالضلوع بعمليات إرهابية، اضافة الى ذلك فإن موقف بغداد من أحداث سوريا أثار حفيظة أنقرة وجعلها تتصرف بانفعال بدا وكأنه غير محسوب النتائج والأبعاد.

ماذا تريد أنقرة من بغداد بالضبط؟

واللافت ان التصعيد التركي مع بغداد رافقه تصعيد مع أطراف أخرى قريبة وبعيدة، وهو ما مثل اتجاهاً مختلفاً تماماً عن الاتجاه الذي تبناه حزب العدالة والتنمية الاسلامي في سياسته الخارجية ألا وهو مبدأ "تصفير الأزمات". وفي فترة من الفترات دفعت أنقرة بهذا المبدأ الى ما وراء القضايا المتعلقة بها، وراحت تلعب أدواراً لحل ومعالجة أزمات هي ليست طرفا فيها، ومع الاستغراق في مثل ذلك التحرك المقترن بطموحات الحضور والتأثير والمحورية أخذت تظهر الأخطاء والمواقف غير المدروسة بدقة حيال ملفات حساسة وخطيرة، بدءاً من أحداث ثورات الربيع العربي في مصر وليبيا والبحرين، والسعي للتوصل إلى حلول تصالحية وسطية تصب في مصلحة الحكام على حساب الشعوب، وفيما بعد الموقف من أحداث سوريا.

وبدلا من أن يفضي مبدأ "تصفير الأزمات" الى نتائج ومعطيات واقعية وإيجابية، تحول الى مبدأ "اختلاق الازمات"، وكما يقول الكاتب حسن الطهراوي في مقاله المنشور في "الانتقاد" تحت عنوان "تركيا من سياسة "صفر مشاكل" الى "مشاكل بالجملة"" قبل عشرة ايام "ان نظرة سريعة الى علاقات تركيا مع جيرانها كافية للقول ان سياسة "صفر مشاكل" لم تعد قائمة على أرض الواقع بعد ان وصلت علاقات تركيا مع دول الجوار الى ادنى مستوى لها في الأشهر الاخيرة، فعلاقات انقرة مع بغداد، والتي كانت توصف حتى وقت قريب بالطبيعية دخلت الآن في أزمة جديّة بسبب التدخل المباشر للحكومة التركية في شؤون العراق الداخلية واعتماد سياسة داعمة لطرف ومذهب محدد بعد تفجر قضية طارق الهاشمى".

ويضيف الطهراوي قائلا "ويمكن القول ان العراق كان الحلقة المفقودة في سلسلة الأزمات التي بدأت بين تركيا وجوارها، فالعلاقات مع دمشق التي كانت حتى وقت قصير توصف بالنموذجية والمثال الذي يجب ان يحتذى به في علاقات الدول سرعان ما تهاوت وتأزمت بعد اندلاع الاحداث في سوريا، فالكثيرون توقعوا في البداية ان تكون مواقف حكومة رجب طيب اردوغان متميزة أو حيادية على الأقل، وان توظف علاقاتها الجيدة مع دمشق لحل الأزمة لكنها على العكس سارعت الى فتح ابوابها للمعارضين السوريين وأقامت مخيمات اللجوء والتدريب للنازحين والمنشقين عن الجيش السوري".

وفضلا عن الازمة مع سوريا فإن هناك ازمات قديمة مع اليونان وأرمينيا ومع بعض دول الاتحاد الأوربي، وتجاذبات مع ايران. واذا كانت مؤشرات التصعيد مع بغداد قد بدأت حينما اتصل اردوغان بالرئيس الأميركي باراك اوباما قبل حوالي اسبوعين "حيث اشتكى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي للرئيس أوباما، معتبرا بحسب صحيفة "حريات" التركية ان الدعم الاميركي للمالكي هو مصدر قوته"، وجاء هذا الموقف كرد فعل على صدور مذكرة اعتقال بحق الهاشمي المدعوم بقوة من قبل انقرة".

وعلى ما يبدو فإن المالكي لم يرغب في تصعيد الموقف مع نظيره التركي، لذلك اكتفى بردود عدد من اعضاء ائتلاف "دولة القانون" المقربين اليه على اردوغان، وبادر هو من جانبه إلى الاتصال بالأخير للاطمئنان الى صحته بعد الوعكة الصحية التي تعرض لها، لكن إيقاع تصعيد الأزمة كان يرتفع بوتيرة متسارعة من خلال وسائل الاعلام وبعض القنوات السياسية، حتى وصل إلى نقاط خطيرة تمثلت بذهاب طيب أردوغان الى البرلمان التركي ليقول "إن انقرة لن تبقى صامتة في حال قامت بغداد بتشجيع نزاع طائفي في العراق، وإن على المالكي أن يفهم هذا الامر"، ناهيك عن وصفه تصريحات الاخير "بالقبيحة وغير اللائقة".

وهذا ما دفع المالكي الى الرد قائلا "إن تصريحات رئيس الوزراء التركي الأخيرة تدخّل جديد في شؤون العراق الداخلية، وهو أمر غير دارج في تعاملات المسؤولين في الدول فضلا عن الرؤساء، وان المواطنين العراقيين يعتزون جميعا بانتمائهم الى وطنهم ودولتهم لا إلى أي دولة أخرى، وان السيد أردوغان يستفز بتصريحاته هذه العراقيين جميعا وخصوصا من يعتقد أنه يدافع عنهم، والعراقيون أخوة متحابون سنة وشيعة لا يحتاجون لمن يتظاهر بالدفاع عن بعضهم ضد البعض الآخر، وعلى السيد أردوغان ان يكون أكثر حرصا على مراعاة اللياقات المعروفة في التخاطب الدولي وألا ينظر الى البلدان الأخرى على أنها جماعات وطوائف كما كان في السابق، بل يحترمها كدول".

ويضيف المالكي "ان التعامل على هذا الأساس من شأنه أن يلحق الضرر بالجميع ومنهم تركيا ذاتها، اذ إن المصالح المشتركة تستدعي المزيد من التنسيق والتعاون بين دول المنطقة لا التدخلات من بعضها بشؤون البعض الاخر".

وارتباطا بذلك اخذت تتبلور قناعة لدى مختلف الأوساط السياسية العراقية بأن الازمة مع أنقرة سائرة في منحى خطير ولا بد من التوجه والتحرك السريع لاحتوائها، وربما كانت هناك نفس القناعة لدى بعض الأوساط السياسية التركية لا سيما الرسمية، ولعل زيارة السفير التركي في بغداد يونس ديميرر لرئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي السيد عمار الحكيم الاربعاء الماضي، ومن ثم توجه الأخير الى أنقرة في زيارة مفاجئة صباح يوم الاربعاء، تأتي في إطار الجهود والتحركات لاحتواء الأزمة ووقف التصعيد، ولا سيما ان الحكيم يرتبط بعلاقات طيبة مع الاتراك، ومع مختلف الاطراف.

ويشير مصدر مسؤول في المجلس الأعلى الى "ان الحكيم سيجري محادثات سياسية مع الرئيس التركي عبد الله غول ورئيس وزرائه رجب طيب اردوغان حول علاقات البلدين، وانه سيسعى الى تهدئة التأزم الذي تشهده العلاقات العراقية ـ التركية على ضوء تصاعد الاتهامات والتراشق الكلامي المتبادل بين كبار مسؤولي البلدين والذي اتخذ منحى مذهبياً خلال الأيام الأخيرة وبشكل يلحق الضرر بالاوضاع الداخلية للبلدين".

في كل الاحوال من الصعب التفاؤل بانفراج سريع للأزمة وعودة المياه الى مجاريها، اذا لم تُعد انقرة النظر في مواقفها وتوجهاتها، وتتجنب تبني سياسة الاصطفافات والمحاور مع هذا الطرف على حساب ذاك، ما يزيد الامور تعقيداً ويصب المزيد من الزيت على النار بدلا من اخمادها.

مصالح الدول تعكسها وتعبّر عنها الحقائق والمعطيات، وتترجمها المواقف وترسمها المؤسسات، لا ملفات الاشخاص وعناوينهم وانتماءاتهم... هذا ما ينبغي ان يدركه ساسة أنقرة في تعاملهم مع العراق وغير العراق.

2012-01-26