ارشيف من :آراء وتحليلات

تأملات في الثورة المصرية مع ذكراها الاولى

تأملات في الثورة المصرية مع ذكراها الاولى

"تأتي الثورة فجأة، وبطريقة مختلفة عما كنا نتوقع ـ (هيرمان جورتر)"

لؤي توفيق حسن (*)
إنها الذكرى الآولى للثورة المصرية؛ وأكثر ما يستفزني أن يتجاوز عليها البعض مستكثرين تسميتها: "الثورة". فإذا لم يكن هذا الطوفان الهادر ثورةً فما عساه أن يكون؟!. وإذا لم تكن الثورات هي ابنة الكوخ والعشوائيات وحاصل البؤس فماذا تكون إذاً؟!.
لكنه جيل الأباء الذي لم يعرف الثورات على حقيقتها. هو ابن زمانه حيث الانقلابات العسكرية التي تتغير معها الأشياء بسرعة المصفحات التي نفذتها !. لكنها غالباً ما تكون مدفوعةً باسباب آخرى غير الوارد في بلاغاتها، إلا من قليل يبدأ بنوايا طيبة وينتهي في الأعم الغالب بديكتاتورية
مهيمنة.
فبل ستة عقود جاءت حركة "الضباط الأحرار" في تموز/ يوليو إنقلاباً عسكرياً كتلك الإنقلابات التي أعقبت نكبة فلسطين في خمسينات القرن
الماضي. لكنها ما لبثت ان تحولت إلى ثورة بفعل إنجازاتها المتعاقبة والتي اعطت لتلك الحركة العسكرية بعداً جماهيرياً ومضموناً ثورياً.. والفضل الكبير في هذا يعود بلا شك لقيادتها الفذة والمخلصة المتمثلة في جمال عبد الناصر.
الناس فاجأت اكثر من طرف عندما فوتت الفرصة على من يريد (بلفها)!
أما ما حدث في25 كانون الثاني/ يناير  فقد جاء مختلفاً بالتمام؛ فهي بدأت منذ يومها الأول إنتفاضة بزخم ومضمون جماهيري، فيما حاول العسكر تطويقها والحد من تأثيراتها. بدايةً برفع الغطاء عن راْس النظام: مبارك، لتقديمه (كرشوة!) لأسترضاء الناس بوصف الأطاحة به هو الغاية ومنتهى الأرب!. فيما المسعى على قدمٍ وساق جارٍ لإعادة أنتاج النظام ذاته من خلال تعويم شخصيات من لدنه، و(تحظى) برضى واشنطن!! ـ عمر سليمان، أحمد شفيق ـ. غير ان الناس فاجأت اكثر من طرف عندما فوتت الفرصة على من يريد (بلفها)!. ما يؤشر على أمر عميق الدلالات. وهو أن "العقل الجمعي " المصري قد بلغ مرحلةً كافيةً من الوعي بحيث يصعب استدراجه إلى ملهاة فُتات الأحداث التي خبرها خلال نظامي السادات، ومبارك، تارةً بفضيحة يدفع ثمنها هذا الوزير أوذاك المسؤول، أو تحويل رئيس الوزراء إلى عَتَّالٍ يحملونه خطايا النظام تمهيداً لإستبداله بآخرعلى سبيل التنفيس في الحالات القصوى!!. بل كثيراً ما بلغ الأستخفاف بالناس حتى كانت أجهزة النظام تنسج فضائح أو تشنيعات رخيصة تطال أسماء من داخل الوسط الفني أو ما شابه تلقيها كجزء من ملهاة إشغال الناس!.
لقد تفوق الشعب المصري على ذاته. وخيب أمال كل من راهن على طبيعته العاطفيةالسمحاء. سواء منهم أرباب النظام، أو الداعمين لهم في واشنطن.
فقد فوجئت هذه الأخيرة بالثورة حتى كان أول أهدافها المصرية ـ ومازال ـ هو التعامل معها لإحتوائها بأية طريقة، واضعةً بعين الاعتبار سيناريوهات تحتمل فيها أمريكا أن تخرج مصر من دائرة نفوذها على المدى المتوسط، أو البعيد. هذا خلافا لما يروج له بعض المتذاكين من أن الثورة جاءت بتدبير أمريكي !.. هؤلاء من أصحاب (نظرية المؤامرة) المتأصلة عند البعض والتي استولدتها "عقدة الدونية" التي تتوهم بأن الغرب يملك مصائرنا. وما مستقبلنا إلا وليد مخططات دوائره الجهنمية!!.. وهماً بلغ حدود الاستلاب عند من لا يرى الهزائم التي لحقت بأمريكا مباشرةً كما في العراق، او مداورةً عبر ربيبتها "اسرائيل"، كما في لبنان، وغزة.
تحديات المكان تستوجب ان تكون الباع المصرية طويلة تصل جنوبا إلى منابع النيل وباب المندب، شرقاً إلى جبال زاغروس، شمالاً حتى جبال طوروس، وغرباً شمالي أفريقيا
غير أن ما سبق لا يعني مطلقاً بان الثورة بالف خير. فهي بلا شك تواجه صعوبات وستواجه المزيد. حصاراً بين المؤسسة العسكرية من جهة التي ستضعها تحت (الحراسة)!. وهي بواقع الحال "حراسة أمريكية" بالنظر للعلاقة الوثيقة بين هذه المؤسسسة المذكورة والبنتاغون!. ومن جهة آخرى تركة السادات وخليفته مبارك. ويا لها من تركة تحتاج لجهد عظيم . وقدر عالٍ من المصانعة في أمورٍ كثيرةٍ!. وبهذا المعنى فأننا ممن يتلمس لحزب الأكثرية البرلمانية ـ العدالة والتنمية ـ القدر من الأعذار؛ أستناداً لخلفيته العقائدية التي لابد وأن تحصنه من التفريط سواء المتصلة باستحقات الداخل، أو غيرها. كما وأننا نعتقد بان أي حاكم لمصر يدرك تبعة الجغرافيا المصرية والتاريخ الحافل الذين سيرتبا عليه أحد أمرين أثنين : إما الريادة والقيادة. كما رمسيس الثاني مروراً بمحمد علي باشا وحتى عبد الناصر.وإما التفاهة والانقياد كما الخديوي توفيق ،الملك فاروق، أوتلك التي شاهدنها في سنوات السادات ومبارك . لا مكان للوسطية هنا لأن المطلوب خارجيا مصر المكبلة؛ المتسربلة بديونها أو أزماتها، المتوسلة للمساعدات؛ كي لا تلعب دور (بروسيا) العرب وهي القادرة عليه. فيما تحديات المكان تستوجب ان تكون الباع المصرية طويلة تصل جنوبا إلى منابع النيل وباب المندب، شرقاً إلى جبال زاغروس، شمالاً حتى جبال طوروس، وغرباً شمالي أفريقيا. أي ضمن ما يُعرف بالمجال الحيوي ( للأمن القومي المصري). وعلى هذه الخلفية نعتقد بان هذا الحاكم الآتي هذه المرة بإرادة الشعب سيقارب ـ ومن موقع الالتزام والمسؤولية ـ التحديات المتأتية من الكيان الصهيوني على أمن مصر، واستقرارها، وأمنها من ضمن هذه الرؤية. حتى لا يكون تكراراً لسيرة من سبقه!
ولعل من بين التحديات التي ستواجه حزب "العدالة والتنمية" قدرته وجديته في مقاربة الملفات الكثيرة التي تنتظره. ولعل من اعظم نتائج هذه الثوره وأسرعها ترجمةً أنها أخرجت ماردا ًمن قمقمه. كان فيما مضى مجرد تعداد من  الملايين، بينما اصبح الآن (رأياً عاماً) بكل ما للكلمة من معنى. شريكاً يسأل ويحاسب. والدليل على هذا انه وبالرغم من الانتخابات النيابية والمراحل التي قطعتها الثورة ما زال في حالة نشاط متواصل متقد الوعي ليقطع الطريق على لعبة فرض الوصاية عليه من العسكر. هذه المسألة التي إن لم يدركها حزب العدالة والتنمية مبكراً فانه سيضع نفسه في مواجهة نسبة كبيرة من الرأي العام بوصفه الغطاء المدني (للحراسة العسكرية) المطلوبة للثورة. ليس هذا هو مكانه . فضلاً انه بها سيتحول إلى الخاسر الأكبر الذي لم يرضي الشاري ولن يرضي البائع. فالمجلس العسكري في الداخل، والولايات المتحدة من الخارج يتعاملون مع حزب التنمية والعدالة على مضض ومن باب التخفيف من الخسائر، وكسب الوقت لا أكثر!.
(*) كاتب من لبنان
2012-01-28