ارشيف من :آراء وتحليلات
المبادرة الخليجية الأخيرة: المؤامرة على سوريا مستمرة
لم تجر رياح تقرير بعثة المراقبين العرب الى سوريا وفق ما تشتهي سفن المؤامرة الغربية ـ الخليجية، التي حددت هدفاً مزدوجاً لهذه البعثة: توفير كل الأسباب التسهيلية لتوسعة مدى التظاهرات الشعبية من حيث الكم، ومن حيث الامتداد الجغرافي، بحيث تشمل أيضاً المدن الرئيسية، إدراكاً من هذا الحلف الجهنمي، أن بقاء التظاهر محدوداً وفي الأرياف، أي في الهوامش، لن يستطيع أن يبزّ النظام أو يضعفه، وأن أقصى ما يمكن أن تؤدي اليه هو الإرباك المتموضع، والازعاج عن بعد، الا أن هذا الهدف لم يتحقق، حيث لم تجاوز عدد المتظاهرين في عموم المناطق السورية الستين ألفاً بحسب الكثير من المعطيات الاعلامية وغير الاعلامية، وأكثر من ذلك، بقي النظام ممسكاً بزمام المبادرة الشعبية من خلال التظاهر بكثافة تأييداً له في مختلف المناطق السورية لا سيما المدن، التي تبقى لها الكلمة الفصل، وهذا ما دفع بهؤلاء الى تعويض ذلك بلعب ورقة الاعتراض المسلح، ظناً منهم أنها ستشكل عاملا مساعدا لتحقيق الأهداف عينها من مدخل آخر.
أما المطلوب الثاني من عمل بعثة المراقبين فهو أن تشكل مشاهد إدانة قاطعة وكاملة للنظام من خلال تقريرها، بحيث يمكن حمله عندها الى مجلس الأمن وحشر كل الأطراف الدولية في الزاوية الضيقة، لدفعها الى اتخاذ القرار بالتدخل الذي سبق وعجزوا عن اتخاذه بفعل الفيتو الروسي ـ الصيني.
لكن عندما جاء التقرير خلاف ما يشتهيه هذا الحلف الجهنمي، أوقع في يدهم، فاضطروا الى تجاوزه لأن أهداف المؤامرة لا تحتمل أي شكل من أشكال الموضوعية، ولأن عامل الوقت بات حاسما، فعمدوا الى فرض مبادرة ثانية مستفيدين من حالة الكوما السياسية التي تعيشها غالبية الأنظمة العربية، بفعل ما يمر بكل منها من تطورات، تجعلها في موقع العاجز عن الفعل أو الاعتراض المعطل، من دون أن يعني ذلك أن هناك اجماعاً عربياً فعلياً حول الموقف من سوريا، بل على العكس هناك مظاهر تمايز واضحة قابلة لأن تتطور مع الوقت الى ترجمة عملية.
وفي مطلق الأحوال، ان قراءة المبادرة السعودية ـ القطرية لا يمكن فهم خلفياتها بالكامل بمعزل عن السياق الذي جاءت فيه، والمتمثل بالتالي:
أولاً: إن المبادرة جاءت بعد تمكن النظام في سوريا من النفاذ من فخ المبادرة الأولى، وكمين بعثة المراقبين، بحسب ما تقدم.
ثانياً: ان المبادرة جاءت عقب الخطاب الأخير للرئيس الأسد الذي أكد فيه المسار الداخلي للاصلاحات وفق جدول زمني معلن:
اجراء استفتاء حول الدستور الجديد في شهر آذار المقبل ـ اجراء انتخابات تستند الى التعددية السياسية ـ تأليف حكومة تتضمن مجمل أطياف المشهد السياسي السوري من موالاة ووسط ومعارضة، واللافت آنذاك أن أحداً من مكوّنات الحلف الجهنمي لم تستوقفه هذه المبادرة الاصلاحية لأنه لا يريد حلاً سياسياً، أحدُ مكوناته الرئيسية النظام، وإنما يريد حلاً لا مكان فيه للنظام، وبالتالي لا مكان فيه للأكثرية التي يحظى بها، ولأن هكذا مبادرة سياسية من النوع العالي السقف، والتي من شأنها ان تضع العصي في دواليب أي مسعى جدي داخلي أو خارجي لايجاد حل للأزمة الحالية في سوريا، ظناً من هؤلاء ان مبادرة سياسية من هذا النوع من شأنها أن تشكل عامل اغراء اضافيا سواء للمعارضة بما يكبح جماح قسم منها على الأقل من الانخراط في أي حل داخلي يقوده النظام، أم للكلفة المترددة أو الحائرة بما يشجعها على الانخراط في عملية اسقاط النظام.
ثالثاً: ان الخطة الآنفة لا يمكن فهم ابعادها بالكامل بمعزل عن صورة المشهد الأمني التي أراد هؤلاء تعميمها عشية مناقشة تقرير البعثة العربية واطلاق المبادرة، والتي ركزت على ابراز نوع من الانهيار الأمني في محيط العاصمة دمشق، للقول بأن عمر النظام بات قصيراً بما يؤدي الى اشاعة نوع من الثقة، ويطلق ديناميات وتداعيات نفسية ومعنوية مشجعة على مزيد من تفكك حلقات الدعم من حول النظام، ولا سيما أنها جاءت معطوفة على رهانات خاصة بتداعيات الحصار الاقتصادي والمالي المضروب على سوريا في هذه المرحلة.
رابعاً: ان المبادرة السعودية ـ القطرية ومن خلال وصلها بمجلس الأمن الدولي، انما تحاول الالتفاف على فشل التدويل من مدخله الغربي، من خلال ايجاد مدخل عربي له، فحيث فشل الغرب في هذه المهمة لاصطدامه بالعقبة الروسية، عسى ان ينجح من مدخله العربي، تحت وهم ان هذا المدخل من شأنه أن يحرج روسيا أكثر.
خامساً: ان المبادرة بما هي برنامج ـ سياسي أريد لها ان تلتف على فشل المعارضة السورية في التفاهم على برنامج سياسي موحد، وبالتالي، فرض برنامج عليها يوحدها قسراً.
سادساً: ثمة سعي واضح في المبادرة لطمأنة الأقليات، بما يدفعها الى الانفضاض من حول النظام، والالتحاق بصفوف المعارضة.
سابعاً: ان هذه المبادرة يراد لها تقييد رئاسة الجامعة العربية القادمة التي ستؤول الى العراق، الذي هو اليوم في الموقع الضد تماماً لموقع قطر الرئيسة الحالية للجامعة.
ثامناً: ان هذه المبادرة تريد أن تستبق شهر آذار المقبل الذي سيشكل محطة أساسية لانشغالات داخلية للعديد من الدول الكبرى: ساركوزي في الانتخابات الفرنسية ـ أوباما في مسارات الانتخابات الرئاسية الاميركية ـ بوتين في رئاسة روسيا... الخ...
من الواضح، أن الاشتباك الدولي ـ الاقليمي ـ العربي والداخلي في سوريا وعلى سوريا ما زال يشكل مساراً ـ تصاعدياً ـ نظراً لموقع سوريا الجيواستراتيجي في المنطقة، وثمة اصرار متبادل من قبل القوى المتصارعة كل على أهدافها حتى الآن: هناك من يريد اسقاط موقع ودور سوريا في المنطقة انطلاقاً من اسقاط نظامها، وهناك من يريد الحفاظ على موقع ودور سوريا انطلاقاً من الحفاظ على النظام مع الانفتاح على حلول تلبي المطالب الشعبية المشروعة، والتي من شأنها ان تقوي سوريا لا أن تضعفها، ولأن شهر آذار يبدو شهراً حاسماً لبلورة وجهة الأمور أكثر، فمن المتوقع أن تشهد المرحلة الفاصلة من الآن وحتى هذا الشهر مساعي مختلفة وباتجاهات مختلفة تخضع لاعتبارات كل طرف وحساباته والأهداف الاستراتيجية الكبيرة المتوخاة.
وفي هذا الإطار، لا تبدو جبهة دمشق هي الوحيدة المشتعلة، وانما هناك جبهة أخرى لا تقل أهمية هي جبهة المواجهة الغربية مع ايران، والتي تؤكد بدورها أن هناك مواجهة شاملة اليوم يخوضها الحلف الغربي ـ الخليجي ـ الاسرائيلي بهدف ضعضعة محور المقاومة في المنطقة وصولاً الى تفكيكه، من دون أن يعني ذلك أن هذا الحلف سينجح في تحقيق هذا الهدف، ان لم نقل أكثر من ذلك، لأن من يضرب رأسه بالصخر لن يحصد في النهاية إلا الحطام.