ارشيف من :آراء وتحليلات
في ذكراها الثالثة والثلاثين: الثورة الإسلامية في إيران بشارة العالم الجديد
عقيل الشيخ حسين
لا ندري ما الذي قصده الصحافي المصري اللامع، محمد حسنين هيكل، على وجه الدقة عندما قال بأن الإمام الخميني (قد) كان رصاصة انطلقت من القرن السابع لتستقر في قلب القرن العشرين.
لكن من الممكن القول بوضوح أكبر إن الثورة الإسلامية في إيران كانت بالأحرى قفزة انطلقت من القرن السابع وعبرت فوق عالم صار مدمراً تحت سماء أصبحت فارغة، حاملة معها قيم الإسلام الأصيل وتعاليمه المنسية لتزرعها في إيران التي تحولت بذلك إلى قمة يشع منها نور الإسلام على القرن العشرين والقرون اللاحقة.
فالحقيقة أن الأفكار التي تتناول القرن العشرين وتعتبره قرن العلم والتقدم والحرية والازدهار وحقوق الإنسان، وتلك التي تتناول الإسلام وتقلصه إلى نمط في الملبس، بحاجة إلى مراجعة جذرية.
فالقرن العشرون، وهذا أمر ملحوظ، يحتل موقعاً على الطرف المعاكس لأحلام تفاؤليات القرن التاسع عشر: فالكانطية والوضعية والتطورية فشلت في تحويل العالم إلى فردوس أرضي بفضل تحالف الإنسان مع العلم وذراعه التكنولوجية.
بدلاً من ذلك، القرن العشرون هو أشبه بجحيم أرضي: حروب استعمارية ظالمة قتلت مئات الملايين، وفقر مبرمج تعاني منه الأكثرية الساحقة من البشر، وأنماط عيش دمرت البيئة والطبيعة، وجنس بشري مهدد بالانقراض.
أما الإسلام فقد استبدل باكراً جداً بمُلك عضوض سلبه فرصته في تدبير شأن الأرض وفق تعاليم السماء. فتاريخ الدول التي حكمت باسم الإسلام هو تاريخ هابط. والمرحلة الحالية من هذا التاريخ تشهد على عمق المشكلة.
من هنا جاءت الثورة الإسلامية كرد على المشكلة بأبعادها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية على مستوى إيران، والعالم الإسلامي، وبقية العالم. ومن هنا، ركزت الثورة، منذ انطلاقتها، على وحدة معركة المستضعفين ضد الحكم الشاهنشاهي والاستكبار الأميركي والصهيوني.
مع إعطاء أولوية خاصة لقضية تحرير فلسطين والمسجد الأقصى في وقت كان معظم الزعماء العرب يتسابقون فيه على توقيع اتفاقيات الاستسلام المباشرة أو غير المباشرة مع الكيان الصهيوني. والأكيد أن الثورة الإسلامية الإيرانية قد لعبت دوراً حاسماً سمح لسوريا ولحركات المقاومة في فلسطين ولبنان برسم معالم عصر الأفول الذي دخلت فيه الدولة اليهودية.
والواضح أن تصميم الثورة على خوض معركة التحرر هذه، وهو تصميم مستمد من الإرث الثوري الإسلامي الأصيل، قد أثار قلق قوى الاستكبار التي لم تألُ جهداً في العمل بكل السبل من أجل إجهاض الثورة.
فمنذ البداية، أعلنت الحرب الناعمة على إيران وهي ما تزال متواصلة حتى اليوم: اغتيالات طالت الآلاف من ناشطي الثورة وبينهم العشرات من قيادييها ونخبها؛ أعمال تخريب استهدفت المرافق الاقتصادية؛ عقوبات وحصار وبروباغندا مسعورة...
وبالتوازي مع ذلك، كانت الحرب العالمية التي شنت على إيران عن طريق نظام صدام حسين واستمرت لثماني سنوات صعبة وباهظة التكاليف على المستويين البشري والمادي.
وبعد فشل الحرب، جاء غزو أفغانستان والعراق لأهداف في طليعتها محاصرة إيران من الشرق والغرب بعد أن حوصرت من جميع الجهات بالأساطيل والقواعد العسكرية المنتشرة في بلدان الخليج وآسيا الوسطى والقفقاس والمحيط الهندي، وكل ذلك وسط أجواء التحشيد على إيران التي اتهمت بالسعي إلى صنع سلاح نووي.
وجاءت هزيمة الاحتلال الأميركي في العراق، وهي الهزيمة التي عززت من موقع إيران الإقليمي في وقت تزعزعت فيه معظم الأنظمة العربية المرتبطة بالولايات المتحدة بفعل الثورات التي اجتاحت العالم العربي، لتدفع بالمعسكر الأميركي ـ الصهيوني ـ العربي المعتدل إلى لعب جميع أوراقه دفعة واحدة، من خلال التهديد المباشر بمهاجمة إيران عسكرياً، ومحاولة ضرب النظام السوري، والسعي إلى اختطاف الثورات العربية.
وحتى الآن يمكن القول بأن الفشل هو ما ينتظر الرهان على زعزعة إيران وسوريا. فالبلدان يمتلكان ما يكفي من الأوراق التي تسمح ليس فقط بالصمود، بل أيضاً بإحداث زلزال يغير وجه المنطقة ويدفع نحو المجهول بأزمات الغرب الخانقة أصلاً. وهذا من دون حساب دور إيران وسوريا في تغيير موازين القوى بالشكل الذي سمح بهذا الدخول القوي إلى مسرح الأحداث الدولية لبلدان كروسيا والصين والهند والبرازيل وفنزويلا وجنوب إفريقيا.
أما الرهان على إسلاميي الثورات العربية وإسلاميتهم المتعارضة مع إسلامية الثورة الإيرانية، فإن التناقضات والمفارقات التي يثيرها التحالف الممكن بين هؤلاء الإسلاميين وقوى الاستكبار كفيلة، في ظل استحالة إيجاد حلول لمشكلات العالم الإسلامي غير تلك التي يقترحها صندوق النقد الدولي، بأن تبرز النموذج الإيراني الناجح ـ على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والتنموية والعسكرية ـ كنموذج ملاذ. وكشمس تنير العالم بقيم القرن السابع وتعاليمه.