ارشيف من :آراء وتحليلات

أين الخطأ ؟!. ما دام أن عبد الناصر لم يعد قادراً أن يسأل

أين الخطأ ؟!. ما دام أن عبد الناصر لم يعد قادراً أن يسأل
"تعلّم كيف تستقبل الأمور التي لا بد من حدوثها حتى تستطيع أن تحوّلها الى شيء تستفيد منه"
(تاليران)

كان عبد الناصر يقول: إذا مرَّ ثلاثة أيام ولم أسمع "شتيمتي" من إذاعة "إسرائيل" ينتابني القلق، وأبدأ بالسؤال: " أنا فين غلطان"*.

وهذا بلا شك ميزان دقيق في التعامل مع الأعداء. إلا إن الطعن هذه المرة قد جاء من ساحةٍ لطالما كانت تهتف باسمه: ليبيا خلافاً للنمط الذي طبع نضال الرجل حيث كان مصدر استهدافه الطبقات الحاكمة في الوطن العربي، ما يستدعي منا السؤال: أين الخطأ؟ ما دام أن عبد الناصر لم يعد قادراً أن يسأل.
نشير لمن لم يعاصروا الرجل، الى ان بعض الحكام من العرب كانوا يخشون فيه ـ فيما يخشون ـ تأثيره في الجماهير. بعضهم عشية خطابه كان يضع يده على قلبه وجلاً!؛ إذ تكفي كلمة أو إشارة من "الرئيس" كي تخرج المظاهرات في هذا المكان أو ذاك. وقد أتى ذلك في مندرجات الصراع مع الاستعمار والأحلاف التي كانت هذه الطبقة من الحكام جزءاً من مشاريعها وما زالت!

المفارقة إذاً أن الطعنة هذه المرة جاءت من قاعدته التاريخية! هي الجماهير التي خرجت في بنغازي تستقبله في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1969، وقد غصت ساحاتها وشوارعها بحشودها. من هذه الجماهير أو امتدادها خرج الآن من يقول عن عبد الناصر إنه "طاغية" وإن تمثاله رمز للطغيان!!!.
لعله من التبسيط القول إنهم: "ثوار الناتو". وعلى علمنا ان الناتو لا يفرز ثواراً!!. وليس التاريخ الاستعماري لأربابه يسمح بهذا أو يشهد على حلفٍ مع الشعوب؛ العكس هو الصحيح. البعض الآخر يفسر الأمر على طريقة الأديب اللبناني الراحل سعيد تقي الدين: "إن الرأي العام مثل البغل" يتحرك بعقلية القطيع! وهذا أيضا يحتاج إلى نقاش بالرغم من أن مقولة الأديب المذكور هي وعلى طريقته الوجه الساخر من نظرية غوستاف لوبون في "سيكولوجية الجماهير" الذي يرى أنه في حالة الجمهور تلغى شخصية الفرد المستقل لتصبح "شخصيته اللاواعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض وتصيبهم عدوى انفلات العواطف..". هذا بدوره قد يبدو صحيحاً بعض الشيء في تفسير السلوك، ولكن السؤال يظل كيف تشكّل هذا السلوك، وما مبعثه؟.
للإجابة، أعتقد ان الأنسب هو العودة الى نظرية بافلوف الشهيرة في التحكم بالسلوك، وبالتحديد منها الشق الذي يتحدث عن "المثير الشرطي"، و"الاستجابة الشرطية".. المثير الشرطي هنا هو القذافي. والاستجابة الشرطية هي رفض ما يمت إلى القذافي بصلة!. ربّ قائل إن القذافي قد انتحل عبد الناصر؛ وهذا صحيح. بل هو بعد وفاته ادعاه فيما سلوكه كان مخالفاً لعبد الناصر. حتى بلغ مرحلة السفور عندما تخلى عن العروبة إلى خياره الأفريقي!!. لكنها الجماهير!!، وهنا قد تسعفنا نظرية غوستاف لوبون في "انقياد الجماعة" من خارج وعي كل فرد من مكوناتها.

إن طغيان العقيد كان كابوساً مرعباً قوامه داء العظمة مع قبضة بوليسية، ما أوجد حالة هستيرية كانت ممسكةً بمقدّرات الشعب الليبي الأمر الذي أدى إلى تشويه العديد من سجايا هذا الشعب، وصفائه، بل هو مثل أي طاغية تعمّد كيّ كرامة هذا الشعب بتعمد إذلاله، وتركه أسير حاجاته وحسب، يلهث من خلفها، ذلك لعدم ثقته به وتوجسه منه، حتى كان يلعب على بعث التناقضات الجهوية، والقبلية، والإثنية ـ (بين العرب والبربر) ـ. وأنا أنقل هذا الوصف كشاهد عيان عايشه بحكم الإقامة في هذا البلد الشقيق.

وحيال هذا كان من الطبيعي أن يثور الشعب الليبي. لكن خشيتنا في أن تسرق هذه الثورة كان في محله!. جاء ذلك في مقالنا على هذا الموقع وبتاريخ 3/22 /2011 : "يا شباب الثورة المصرية.... أنقذوا ليبيا وثورتها". والعنوان يختصر المضمون. وقد كان يحدونا أملٌ حينها في إمكانيات الثورة المصرية على رؤيةٍ تتجاوز ساحة التحرير، باعتبار أن ليبيا تقع في المجال الحيوي "للأمن القومي المصري". ثم جاء اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس على يد مسلحين من اسلاميين أصوليين في تموز/يوليو مؤشراً على وجود طبخة تستهدف قطع الطريق على العناصر القومية في قيادة الثورة والإمساك بدفة سفينتها. وهكذا وتحت وطأة التدخل العسكري لحلف (الناتو) أصبحت الثورة الليبية بعدة رؤوس ومن مختلف الأنواع سياسية إخوانية هي الأقوى، إلى جانب قبلية، وجهوية، وفي بلد من غير تاريخ سياسي أو في عدمية سياسية على الأقل منذ مجيء القذافي. بحيث باتت التنظيمات الإسلامية هي المتنفس الوحيد لرفض الليبيين لطغيان "العقيد". وبالتالي باتت هي الأقدر على تحريك الجماهير مستفيدة من متلازمة بافلوف التي أشرنا إليها.

ادعى القذافي عبد الناصر، وحاول في حقبة من تاريخه أن يستمد شرعيته من وصف عبد الناصر له "امين القومية العربية"؛ فكانت النتيجة أن ممارساته أضحت أكثر من عبء يسيء لموضوعة القومية العربية، ولزعيمها. فيما لم نجد بالمقابل ناصريين أو غيرهم من القوميين انحازوا إلى الشعب الليبي على مدى سنوات القهر. بل لعل البعض كانوا ينافقون "الأخ العقيد" طلباً للمال!!. وبعد ثورة الليبيين في 17 فبراير/شباط جرى التعامل مع هذه الثورة بريبة حتى أخليت الساحة للأطلسي. وازدادت الفجوة أكثر فأكثر مع استسهال تهمة هؤلاء بـ "ثوار الناتو"!.

وهكذا ومع توافر الأسباب كانت النتيجة الارتدادية التي عبّرت عن ذروة سخطها بإزالة نصب الزعيم جمال عبد الناصر، وبطريقة قلدت فيها الضحية جلادها. ألم يفعل القذافي الأمر ذاته عندما أزال قبر ونصب المجاهد الكبير عمر المختار من بنغازي!. ولطالما كان يقوم بها بنفسه سائقاً للجرافة في بعض مسرحياته. نذكر منها إزالته لنقاط الحدود الليبية مع تونس!. وهدم أحد السجون!!.

إن ما حدث في ليبيا نكسة جديدة لموضوعة قومية ومسيرتها! ومثال حي للتداعيات التي يرتبها ادّعاء الدجالين لقيمها او لمتاجرين بها لتسويق استبدادهم، وفسادهم. وإذا كان ما يشفع لعبد الناصر عند من عاش عصره، لمس الفارق بين ما قبل عصره، وعصره، فإن ذكراه العطرة لا تكفي لمخاطبة الأجيال التي ولدت من بعده!. وهي أسيرة التشوه القيمي الذي استولده الظلم والاستبداد. لا بد للقوى القومية أن تتجاوز عاطفة الإدانة حيال تحطيم النصب في بنغازي إلى جرأة السؤال عن الأسباب متذكرين القول الشهير للعالم الكبير انشتاين: "لا تتوقع نتائج مختلفة إذا كنت تكرر الشيء ذاته".

لؤي توفيق حسن ـ كاتب لبناني

* من بين الذين روى هذه الواقعة والدي الذي سمعها شخصياً من عبد الناصر خلال عمله في رئاسة الجمهورية ـ سكرتيراً للمكتب الصحفي (1962-1965
2012-02-20