ارشيف من :آراء وتحليلات

تفسيرات منطقية لعمليات الهند وجورجيا وتايلاند: هكذا تضلِّل "اسرائيل" العالم؟

تفسيرات منطقية لعمليات الهند وجورجيا وتايلاند: هكذا تضلِّل "اسرائيل" العالم؟
عبد الحسين شبيب

يوجد تفسير تقليدي للأحداث المتماثلة الي شهدتها الهند وجورجيا وتايلاند، والتي تمحورت حول تعرض أهداف إسرائيلية لعمليات أمنية. هذا التفسير يذهب مباشرة الى أن أحداثاً كهذه تشكل مناسبة للقيادة الاسرائيلية للتذرع بها في اتخاذ قرارات كبيرة. القرارات الكبيرة يقصد بها اليوم الذهاب الى حرب ضد ايران. التفسير التقليدي قفز الى رأس التحليلات مباشرة بعدما حمّل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ايران وحزب الله المسؤولية عن هذه العمليات. حزب الله نفى على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله وأعطى سببا منطقيا يدحض الفكرة ـ وسبقه اليها محللون اسرائيليون يفهمون الحزب تماما ـ من ان أهدافاً كهذه غير لائقة لا بالحزب ولا بالشخص المزمع الانتقام له، اي القائد الجهادي الكبير الحاج الشهيد عماد مغنية.

وفوق كل ذلك ليس حزب الله بما يمتاز به من عقل امني وعسكري ليذهب الى عمليات كهذه في توقيت يدأب الاسرائيلي مباشرة على التحذير فيه من تنفيذ عمليات ضده. اما ايران فنفيها الرسمي يكفي، اما في المنطق فمعركتها اكبر من تفاصيل كهذه. وطبعا لا تحتاج طهران للنفي لكي تسحب الذريعة من قيادة العدو في شأن الحرب، فمن السذاجة ان يكون قرار مصيري وجودي يتعلق بـ"اسرائيل" يتخذ كرد فعل على استهداف بضعة اسرائيليين عاديين، فليست ايرانُ لبنان، وليست ذريعة استهداف السفير الاسرائيلي في لندن عام 1982 ولا كل سفراء "اسرائيل" في العالم كافية لكي تبرر لقيادة العدو قرارا بحجم الحرب على ايران. حرب كهذه ـ كارثة متى ما قررت القيادة الصهيونية بدءها فليست بحاجة لا الى دليل ولا الى تبرير، ولا سيما انه في الخطاب الرسمي الاسرائيلي المعلن ان "الحرب مسألة توقيت ليس الا"، وأن سببها هو ما تشكله الجمهورية الاسلامية من تهديد وجودي للدولة العبرية، وهذا التشخيص كافٍ لتبريرها. اذاً لماذا اثارة الامر على هذا النحو وما هو التفسير الممكن لهذه الاحداث؟

فيما يتعلق بايران، وفي ظل الجدل الاسرائيلي حول خيار الحرب وما يمكن ان تجره على المشروع الصهيوني في العالم، وليس "اسرائيل" فحسب، هناك من يجد وظيفة في هذه الوتيرة المتسارعة من العمليات الأمنية وإن كانت صغيرة في اهدافها، كدليل على ما يمكن ان ينتظر "اسرائيل" من ردود عنيفة وقاسية ليس في ساحة المواجهة المباشرة فقط، التي غالبا ما تستحضر فيها الصواريخ البعيدة المدى التي يمكن ان تمطر بها طهران كيان العدو، وأيضا صواريخ حزب الله وحماس والجهاد الاسلامي وسوريا، وأي مصدر صاروخي آخر محتمل، ولا المواجهات البرية والبحرية والجوية التي يرجح ان تحصل على غير جبهة، بل ان هذه الردود على أي مغامرة ضد ايران يمكن ان تفتح ابواب الجحيم على كل ما يمت لـ"اسرائيل" بصلة في اي مكان في العالم، وهو أمر دائما ما يحذر منه مسؤولون اسرائيليون سابقون وخبراء ومحللون يعرفون قدرات خصوم "اسرائيل" على الرد والضرب. وبالتالي يمكن ادراج تضخيم اعلامي كهذا لاحداث الهند وجورجا وتايلند وغيرها في سياق هذه الوظيفة التي تندرج ضمن الانقسام الاسرائيلي حول جدوى الحرب ضد ايران.

تفسيرات منطقية لعمليات الهند وجورجيا وتايلاند: هكذا تضلِّل "اسرائيل" العالم؟


تفسير آخر يستبطن وظيفة اخرى تتعلق بقلق "اسرائيل" من انشغال العالم بنفسه وازماته مما يرتد على امنها الخارجي، ولا سيما وهي ترى كل بلد منصرفا الى شؤونه. وكل البلدان الكبرى حاليا، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا بشكل عام، بعد هزيمة العراق وبعد الهزيمة المرتقبة في افغانستان، وبعد تحولات الثورات في العالم العربي، تجري مراجعات وتفسيرات لمصالحها القومية وإعادة هيكلتها بما يقلص من المخاطر على هذه المصالح ولو تطلب الامر اخلاء ساحات طالما عملوا لها. وهذه المراجعات هي اكثر ما يقلق "اسرائيل" اليوم التي ترى حلفاءها الاستراتيجيين ينكفئون عن الشرق الاوسط، او يجرون مقاربات لا تراها تظلل الامن الاسرائيلي بما يكفي من الحماية. وقد كان نتنياهو واضحا في تعميم هذا الفهم ضمنا بقوله ان "نظاما لا يحترم القانون الدولي، يقتحم السفارات ويهاجم الدبلوماسيين في دول أجنبية، لا يمكنه أن يحوز قنبلة ذرية. ايران، بشكل وقح، تستفز كل العالم، تبعث أذرع الحكم لتنفيذ عمليات ارهاب ضد دبلوماسيين، تبعث بالاطفال الى حقول الالغام، تطلق الاف الصواريخ على الابرياء، واذا كان احد يحتاج الى تذكير بسلوكها فقد حصل عليه أمس في الجولة المنظمة التي اجراها قادتها في المنشآت النووية".

وعليه تأتي هذه التفجيرات لكي توظف في استدراج انتباه من يعنيهم الأمر الى المخاطر التي تتهدد "اسرائيل" ومصالحها، فضلا عن ان التوظيف الأولي لها تمثل في فرض "تل ابيب" على جميع العواصم التي يتواجد لها فيها سفارات ومصالح احاطتها بأقصى قدر من الحماية والحراسة الأمنية والاستخباراتية، وهو ما يخفف عن "اسرائيل" اعباءً كثيرة في هذا المجال.

وفي هذا السياق يرد تفسير آخر يتصل دائما بالسجالات داخل "اسرائيل" حول التقصير الامني، اي صراع الاجهزة، حيث انه في ظروف من التهديد المتصاعد سيحاول كل جهاز ان ينأى بنفسه عن المسؤولية ويلقيها على الآخرين، وهو امر طالما ترددت اصداؤه في اعقاب كل استحقاق امني، سواء كان كبيراً كحرب تموز/ يوليو عام 2006 او صغيراً، كالعمليات الاخيرة وسابقاتها، وهو ما حصل بالفعل من خلال مداولات المجلس الوزاري المصغر حيث تحدث بعض اعضائه عن ثغرة خطيرة "تمثلت بغياب المعلومات المسبقة التي من شأنها ان تحبط عمليات كهذه"، وانقسم المجتمعون (اسرائيل اليوم، 17/2/2012) بين من وجد في الهجمات "محاولات انتقام تم تجهيزها بتسرع" وبين من رأى فيها "موجة ارهاب عالمي جديدة"، وكانت خلاصة التقويم الاستخباري هي "غياب للمعلومات الاستخبارية الحاسمة" و"أن ما تعرفه الاجهزة الامنية الاسرائيلية عن احتمالات الخطر والهجمات اقل بكثير مما لا تعرفه" ومما يجب ان تعرفه. وما يغذي تفسيراً كهذا، ما هو موجود حاليا في كيان العدو من جدل حول الموازنات الامنية والتخفيضات المقترحة عليها، والتي ألغت مشاريع امنية وعسكرية وعديدة، وايضا كانت سببا معلنا وراء الغاء مناورات "نقطة تحول 6"، وبالتالي فان الاحداث الاخيرة من شأنها تعزيز وجهة نظر المعارضين لتلك التخفيضات بدعوى انها ستؤثر على فعالية اجهزة الاستخبارات في حماية المصالح الاسرائيلية في الداخل والخارج ما لم تتوافر الموازنات والعتاد المطلوب لمواجهة كهذه، ليخلص المحلل الاسرائيلي "يؤاف ليمور" (اسرائيل اليوم، 17 شباط 2012)، الى القول "ان المؤسسة الامنية مشلولة بسبب الجدال على موازنة الامن".
اما الوظيفة الاخرى التي ألمح اليها ليمور في مقاله فتتعلق باحداث تغيير في موقف بعض الدول الرافضة لنظام العقوبات الدولية او الاحادية على ايران، حيث "الهند التي تقف هي والصين على رأس قائمة زبائن النفط الإيراني تعرضت لضغوط مكثفة للانضمام إلى الحظر. وأدارت الحكومة في دلهي حوارا جادا مع الأطراف، وفي النهاية نجحت الهند في تخفيض أسعار النفط الإيراني مقابل البقاء خارج الحظر"، ويخلص ليمور الى انه "في اسرائيل تعلّق الآمال على أن يغيّر الاعتداء الذي وقع هذا الأسبوع موقف الحكومة الهندية"، لذا تبدو واضحة الرغبة الاسرائيلية بدق إسفين في العلاقة بين نيودلهي وطهران من خلال تحميل الأخيرة مسؤولية العمليات، لكن الهند نأت بنفسها عن محاولة كهذه، وكانت تصريحات مسؤوليها منطقية في مقاربة الهجوم وعدم توافر دليل يدين ايران.

يبقى السؤال عن الجهة المسؤولة عن هذه العمليات. ففين حين تحاول "اسرائيل" ان تحصر اعداءها بايران وحزب الله وحماس وسوريا، في حين أن لها اعداءً كثراً معروفون، وآخرين يمكن ان يظهروا في أي لحظة، لا سيما بعد الثورات العربية الحالية، لكن اللافت ما نقلته "اسرائيل اليوم" عن مصادر اسرائيلية تشارك في التحقيقات في عمليات الهند وجورجيا وتايلاند،وهو ملاحظتها انه في جميع الحالات كان هناك اسلوب عمل متشابه يتعلق بعبوات ناسفة مغناطيسية يتم لصقها على السيارات ومن اشخاص يركبون دراجات نارية ثم يتوارون مسرعين، وهو الاسلوب نفسه الذي جرى في عمليات اغتيال العلماء النوويين الايرانيين، وهي الجرائم التي نسبت للموساد، وهذا التشابه الملاحظ على لسان مصادر اسرائيلية يطرح اكثر من علامة استفهام حول ما يجري، ولا سيما ان احدا في هذه التفجيرات لم يقتل واقتصرت الاضرار على جرحى وخسائر مادية بسيطة.

2012-02-20