ارشيف من :آراء وتحليلات

"انتخابات" اليمن: الدور الاميركي ـ الخليجي في تضليل الجمهور وسلب الوعي.. والثورة

"انتخابات" اليمن: الدور الاميركي ـ الخليجي في تضليل الجمهور وسلب الوعي.. والثورة
عبد الحسين شبيب

بعيد انتصار الثورة الاسلامية في إيران ألف الكاتب والسياسي المصري المعروف محمد حسنين هيكل كتاباً ربما كان الاول من نوعه في حينه عن هذه التجربة الشعبية في تغيير نظام حكم كان يتسم بمنسوب عال من القمع والاستبداد، وبمنسوب أعلى من الحصانة الخارجية، لا سيما الأميركية التي وفرتها الادارات المتعاقبة في البيت الأبيض واستحق بفضلها "ملك الملوك" الشاه محمد رضا بهلوي لقب "شرطي الخليج" أو حارس المصالح الأميركية في تلك المنطقة، حيث لم يجرؤ لا ملك ولا أمير ليس على مواجهته فحسب بل حتى على اغضابه.

في هذا الكتاب الذي كتب باللغة الانكليزية وترجم الى اللغة العربية وحمل اسم "مدافع آية الله"، ويقصد به الإمام الراحل السيد الخميني، وضع هيكل خلاصة تجربته في تغطية الثورة الإسلامية عندما عمل مراسلاً صحفياً لعدة صحف أجنبية، بنى خلالها شبكة علاقات واسعة مع نظام الشاه ومع الأوساط الثورية وكان على تماس مع الجهات الخارجية الضالعة بالشأن الايراني، لا سيما الأميركيين الذين كانوا يديرون من سفارتهم الأكبر في الشرق الاوسط والمقامة في وسط طهران شؤون المنطقة.

يروي هيكل بالتفصيل وقائع ووثائق التدخل الاميركي للحفاظ على الشاه وكل ما قاموا به من اعمال عسكرية وأمنية واستخباراتية وسياسية لمنع سقوط نظامه، وصولاً الى المناورة الأخيرة التي تمثلت بـ"سفر الشاه الى الولايات المتحدة للعلاج"، كجزء من مخطط يرمي لاستيعاب الثورة عبر إجراء عملية تغيير شكلية تستجيب لمطالبها وتسحب البساط من تحت قيادة الامام الخميني، وتبقي النفوذ الاميركي في ايران كما هو. وكان رئيس الوزراء شاهبور بختيار حصان طراودة الأخير الذي أوكلت اليه تلك المهمة، لكن الامام الخميني أصابها بفشل ذريع بعدما كشف لعبة واشنطن لنقل الشاه مؤقتاً اليها قبل ان تهيئ له ظروف العودة اللاحقة.

"انتخابات" اليمن: الدور الاميركي ـ الخليجي في تضليل الجمهور وسلب الوعي.. والثورة

السيناريو الاميركي نفسه يتكرر اليوم في اليمن مع فارق مئة وثمانين درجة، تمثل بفشله في ايران ونجاحه في اليمن. فالخبر الأخير الذي اختتمت به عملية الاستيعاب الأولية للثورة اليمنية ـ رغم ان الرهان لا يزال مستمراً على تيقظ شباب الساحات ـ تمثل باعلان متحدث بإسم السفارة اليمنية في واشنطن عودة الرئيس السابق علي عبد الله صالح الى صنعاء مساء يوم الجمعة الماضي "بعد تلقيه العلاج في الولايات المتحدة من جروح أصيب بها في محاولة اغتيال تعرض لها العام الماضي"، وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من اجراء انتخابات رئاسية قادت نائبه عبد ربه منصور هادي الى رئاسة الجمهورية اليمنية.

طبعاً كانت تلك الخلاصة التنفيذية للمبادرة الخليجية التي قادتها كل من السعودية والولايات المتحدة لمنع اسقاط نظام صالح بالطريقة التي سقط فيها نظاما زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، وهما نظامان صديقان وحميمان للرياض وواشنطن، كنظام صالح، بحيث أمكن القول ان البلدين الجار القريب، والراعي البعيد، حافظا على مصالحهما بالكامل، وحالا دون اكتمال عملية اسقاط أحجار الدومينو ومرورها في اليمن.

طبعاً الحل السياسي لما وصف بالأزمة اليمنية عوضاً عن "الثورة اليمنية" انطوى على مفارقات أولها وأخطرها إعفاء الرئيس صالح وكبار مساعديه من المساءلة القضائية عن الجرائم التي ارتكبت ضد الثوار من خلال منحه حصانة صادق عليها البرلمان اليمني وأقفلت بذلك الطريق أمام اي محاكمات شبيهة بتلك التي تجري في القاهرة لكبار النظام المصري السابق وفي مقدمهم حسني مبارك. وتلك طبعاً اعتبرت إحدى ابرز النكسات لمنطوق الخطاب الديمقراطي الذي يدعو في مكان الى "منع افلات أحد من العقاب على جرائم ارتكبت أو نسبت الى اشخاص"، وإصدار منظومة عقوبات إقليمية ودولية ضد انظمة وشخصيات متهمة بالمسؤولية عن ارتكابات ضد الانسان وحقوقه، وفي مكان آخر يعفي متهمين عن هكذا ارتكابات من الملاحقة والمحاكمة.

المفارقة التالية تمثلت بنقل السلطة الى الشخص الذي يتحمل المسؤولية الموازية عما جرى سواء في الفترة السابقة لحكم اليمن أم خلال الثورة الأخيرة، أي الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، وهو في تعريفه كما يرد رسمياً: "قائد سياسي وعسكري شغل منصب نائب رئيس الجمهرية اليمنية ونائب رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم والذي يرأسه صالح". علماً ان هادي يدير اليمن عملياً منذ فوضه صالح بذلك في الخامس من حزيران/يونيو الماضي خلال فترة علاجه في السعودية. وهذا يعني ضمناً ان الجهة التي كانت تدير اليمن لا تزال هي نفسها مع تغيير في الاسماء أملته مقتضيات المبادرة الخليجية ـ الاميركية.

لكن المفارقة الاكثر استفزازاً واساءة لمعنى الديمقراطية، كما هي في تعريفها المتفق عليه عالمياً والمعمول بها في الغرب، لكنها تنقل بنسخ مشوهة وممسوخة الى العرب، تمثلت بأخذ اليمنيين الى انتخابات يتنافس فيها على منصب رئاسة الجمهورية مرشح واحد فقط لا غير. وهو أمر انطوى على عملية "استلاب ذهني" للشعب اليمني من خلال اصطفافه امام صناديق الاقتراع ليصوت لمرشح واحد هو في التعريف الدستوري القانوني المفاهيمي للانتخابات فائز بالتزكية.

"انتخابات" اليمن: الدور الاميركي ـ الخليجي في تضليل الجمهور وسلب الوعي.. والثورة

وبالتالي لا يصح أبداً فتح تلك الصناديق طالما لا يوجد مرشح آخر. فقط الحالة الوحيدة التي يمكن الذهاب فيها الى انتخابات بمرشح واحد هي تلك التي تحدد نسبة مشروطة لفوزه، وبالتالي لا يصح فوزه بالتزكية، انما يحتاج الى العدد المحدد دستوريا، ولو لم ينافسه احد.

لكن في الحالة اليمنية فتحت صناديق الاقتراع وانتخب المشاركون لمرشح واحد هو فائز مسبقاً بالتزكية، وكان يكفي ان يصوت لنفسه لكي يفوز، وبالتالي لا داع لأي عملية انتخابية لأنه لم يشترط لفوزه حصوله على اي نسبة اصوات من عدد من يحق لهم الاقتراع.

لكن عملية الاستلاب السياسي ايضاً لم تقف عند هذا الحد فكان ان اعلن فوز الرئيس الجديد بنسبة 99،8 في المئة من اصوات المقترعين، وعددهم تجاوز الستة ملايين وستمئة وستين الف ناخب وناخبة، وهي نسبة تذكر بالانظمة العربية التي دأب زعماؤها على الفوز بنسبة 99،99 في المئة من الناخبين، أي انه تم تخفيض رقم ما بعد الفاصلة الى 80 بدلاً من 99 أي نصف ربع شحطة، علماً انه في انتخابات انظمة القمع التي اسقطتها بعض الثورات ويُنتظر اسقاط اخرى كان "الزعيم الخالد" يضع مرشحاً منافساً لكي يبرر امام الرأي العام فتح صناديق الاقتراع، لكن في حالة اليمن الاخيرة استعيض حتى عن هذه الشكلية.

كما كان لافتاً بعض ما ذكره ناشطون سياسيون يمنيون ممن شاركوا بفعالية في اعمال الثورة من انه تم احتساب جميع الارواق التي وضعت في الصناديق لصالح الرئيس الجديد، حتى ولو تضمنت عبارات مسيئة او كلاماً تعبيرياً او ما شابه، بحيث لم تتضمن اسمه، لكن مع ذلك تم ادراجها في خانة من صوت له.

هكذا تم اختراع "ديمقراطية" لا سابق لها كان لفضائيات "الثورات" العربية دور بارز في تسويقها وفي ممارسة عملية "بلف" لوعي الجمهور واثقاله باخبار وتحليلات وتغطيات مباشرة عن "فضائل" الحل الاميركي ـ الخليجي الذي ابقى الحزب الحاكم في السلطة بعد 33 عاماً من الحكم المستمر، واخرجت الناس من بيوتها لتنتخب مرشحاً فائزاً بالتزكية ليفوز بنسبة سريالية شقيقة باللحم والدم لسابقاتها من نسب الفوز العربية الرسمية، لتشبه ايضا قرابة الاخ غير الشقيق للرئيس السابق علي محسن الاحمر الذي لا يزال طيفه يظلل الحكم الجديد الشقيق كامل النسب للحكم السابق.
2012-02-27